صبحي موسى يربط الراهن بالماضي في "صلاة خاصة"
"في البدء كانت هضبة الملاح نهاية العالم. وصلها الملاح بعد شهور طويلة من السير، صعدها تاركاً الحياة من خلفه، دون أن يدري أنه سيكون قديساً يتبرك به الجميع، ويأتي الناس من أقصى البقاع إليه". تنمو أسطورة جبرائيل الملاح لتحمل على أكتافها أحداث رواية "صلاة خاصة" (الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة) للمصري صبحي موسى. ينحت موسى أساطيره الخاصة جيداً حتى أنها تبدو حقيقية، مثل ابتكاره لأسطورة الملاح، ذلك القديس الهارب من اضطهاد الروم إلى الجبال، إذ يرافق لبؤة وأشبالها الأربعة في الصحراء، وعندما تموت اللبؤة ويموت الملاح يبنون قبراً لكل منهما، وينشأ في هذا المكان دير الملاح برهبانه وأساطيره.
تمنحنا رواية "صلاة خاصة" بانوراما للتاريخ المسيحي المصري أيام الحكم الروماني والبيزنطي، وما شهده المسيحيون من اضطهادات وتقلبات ارتبطت بتقلب الأوضاع السياسية وتغير الحكام الروم ومدى ميلهم للمسيحية أو الوثنية. وبدت الإشارة واضحة إلى فكرة اختلاط السياسي بالديني، عندما اختلطت سلطة البابا بسلطة القيصر. لتطرح الرواية بذلك قضية تشابك العلاقة بين السياسة والدين وقيام بعض جماعات السلطة باستغلال نفوذهم للتأثير على مسار القرار الديني، والعكس عندما استعمل بعض رجال الدين سلطاتهم لإخضاع الآخرين. ذلك مرجوعه للطبيعة البشرية التي تغلِّب المصلحة وليس من طبيعة الأديان.
أكملت الرواية رحلتها التاريخية مع مجيء حكام روم أكثر تفهماً فاستقرت المسيحية ومدت جذورها على الأراضي المصرية، وحاول البعض مقاومة أثار الوثنية والتخلص من عبادة إيزيس ومعابدها. رصدت الرواية أيضاً تواريخ مرتبطة بوضع أسس العقيدة المسيحية، مثل تاريخ المجامع. والمجامع عبارة عن اجتماعات للقساوسة والباباوات لحسم موضوع عقائدي خلافي، على أن يتفقوا جميعاً على رأي واحد بشأن إحدى القضايا الخلافية، ويتم وصف بالهرطقة من يخرج بعد ذلك برأي مختلف عن الرأي الذي أقروه. كان من بين الموضوعات الخلافية الأساسية التي ناقشتها المجامع طويلاً موضوع طبيعة المسيح إذا كان بطبيعة بشرية أم إلهية.
تطرح الرواية بذلك جزءاً مهماً من التاريخ المصري، بما أن التاريخ المسيحي هو جزء أصيل من التاريخ المصري، وأحد أذرع الهوية المصرية. وبهذا العمل يكون المؤلف قد قدم ثنائية روائية عن تاريخ الأديان، فقد حكى في روايته السابقة "الموريسكي الأخير" عن مسلمي الأندلس، وحالة الاضطهاد التي عاشوها بعد سقوط الدولة الإسلامية. أكمل صبحي موسى في روايته الجديدة "صلاة خاصة" تتبعه الروائي لتاريخ الأديان، مقدماً التاريخ المسيحي، ليجوب بنا مقاطعات مسيحية ومناطق جديدة، مثل المغارات والقلال التي يعتكف فيها الرهبان بالصحراء، ودير الراهبات الذي يلتصق ببابه الخلفي دير النُساخ. يكتب المؤلف بذلك أكثر من رواية تحت فكرة "الثنائي التاريخي"، فيرصد في رواياته لعالمين وتاريخ دينين، هما التاريخ الإسلامي والتاريخ المسيحي.
اختار صبحي موسى أن يسير بالرواية في خطين زمنين، الخط الأول هو الزمن التاريخي، والخط الثاني هو الزمن المعاصر بعد قيام الثورة المصرية.
ويدور خط الحكاية المعاصر حول دير الملاح، بأبطال ثلاثة أساسيين، القس أنطونيوس الذي تريد بعض الجماعات الدينية الإطاحة به فتتهمه بالهرطقة، ودميانة المحققة التي تجري معه التحقيق، وملاك كاتب التحقيقات. وقسمت الرواية إلى ثلاث أجزاء، هي: "أنطونيوس الجسد الذي يبذل"، "دميانة ريح الجنون"، "ملاك إشارة الروح"، وهذا التقسيم الفني للرواية مستلهم من فكرة الثالوث المسيحي نفسه.
يمثل القس يوساب أحد الأطراف المعادية، التي تسعى للإطاحة بأنطونيوس ليمد سيطرته على الدير. بهذا تقدم رواية "صلاة خاصة" نموذجاً لسعي بعض الأفراد للسلطة ولمحو الآخر، إنها المؤامرة البشرية التي تسترشد بسلطة الذات وليس سلطة الدين.
أبطال الرواية شخصيات مرسومة بعناية. قريبة ومحيطة بالقارئ، فأنطونيوس نموذج إنساني لراهب يأخذنا إلى محطات التحولات في حياته، كيف دخل الكنيسة، وكيف بدأ إيمان الناس به ينصّبه راهباً يشفي أمراضهم، هو الذي لايزال يبحث عن إيمانه وخلاصه. بدت المرأة نموذجا حقيقياً ضمن نسيج الرواية، فدميانة شابة متمردة قوية ترث المحاماة عن أبيها وتعمل كمحققة في الأديرة والكنائس، وأمها تريزا تبدو مثل الأمهات المصريات: "تعلم أن ابنتها في ضيق كبير، وأنها رأتها في الحلم تعاني من هذا الضيق.. ذكرت لهم أن ابنتها تعمل منذ ثلاثة أعوام محققة في دير الملاح، وأنها رأت العذراء في منامها تمد لها يداً لتخرجها من بئر سقطت فيه". أما ملاك الضلع الثالث في ثالوث الحكاية، فهو نموذج للإنسان المهدد لعدم امتلاكه أوراق هوية تثبت وجوده أصلاً، ولذلك تستغله الأطراف الأخرى فتهدده بالقتل. هو الذي وجدوه على باب الدير رضيعاً صغيراً، فلم يألف حياة المدن لأنه عاش بالدير طوال عمره. يتعرض ملاك لضغوط ويشعر بالضعف، خائف، ومهدد، يخفي إيمانه: "أكتب هذه الكلمات كي تكون دليلاً على الخطى التي بدأت تتخذ مسارها على أرض الدير، فمنذ انتقلت للإقامة في مخزن المخطوطات مع الكاتب إدورد حنا وأنا أفكر في هذا المكان، كما لو أنني أفكر في بداية الخلق ونشأة الحياة".
استعمل المؤلف التكنيك السينمائي للانتقال بين المشاهد ووصف حركة الشخصيات. واتسمت لغة الرواية بأنها ابنة العالم المحكي عنه، فلم يقل مات فلان، إنما يقول "تنيح"، وبدلاً من خلع القس يذكر "شلح القس".
تظهر اللبؤة التي صاحبت الملاح مرة أخرى في صورة معجزات متكررة داخل المسار الروائي، تتدخل لتنقذ أنطونيوس من جرائم يتم تلفيقها له، وتنقذ المحققة دميانة ممن يريدوا القضاء عليها ودفنها في الصحراء: "ما رواه الرهبان ليوساب أنهم ألقوا بها في الحفرة، وكانوا على وشك أن يردموا عليها الرمل، لولا أنهم رأوا لبؤة بصحبة أشبال أربع ظهرت كأنها نزلت من السماء أو خرجت من الأرض، وتمطت أمامهم على رأس الحفرة كما لو أنها تستعرض قواها عليهم، ثم ما لبثت أن رفعت عنقها نحو السماء مطلقة صوتها الغاضب، فتقافزوا متراجعين للخلف".
اتسعت ملحمة الأحداث وجاب الأبطال مدن مصرية مختلفة ليعودوا في النهاية إلى النقطة الأولى؛ دير الملاح ويحسموا فيه صراعهم مع المترصدين لهم. تظن الأطراف كلها أن في إمكان اللبؤة الظهور من جديد كمعجزة في ذاتها، لكنها مثلت مجرد مؤشر على تحرك المعجزة داخل الأبطال أنفسهم وهم يجدوا إيمانهم الحقيقي ويتحدوا أصحاب الإيمان الزائف.
لم يخبرنا المؤلف ماذا تغير في قلب الشخصيات بعد المغامرة الطويلة، ليبدو أنه فصل ناقص في العمل، أو ربما هو الفصل المتروك للقارئ ليكتبه كل شخص بإيمانه، وهو يبحث عن معجزته، فـ"كل كتابة هي صلاة خاصة لكاتبها".