«صيف مع العدو»... رصد التحولات الإنسانية في سوريا
تحاول الروائية السورية شهلا العجيلي أن تلعب على الشكل في روايتها الرابعة «صيف مع العدو»، الصادرة عن منشورات «ضفاف»، والمرشحة لجائزة «بوكر» العربية. فتبدأ الرواية من حيث انتهت الأحداث لتعيد سردها بضمير المتكلم، الذي تراه «مخاتلاً وحميمياً». أما المضمون في هذه الرواية فقد تنوّع ليشمل عِلم الفَلك، وعالم الخيل، والموسيقى الكلاسيكية، والتنقيب الأثري، والاعتقالات السياسية، والرحلات الفضائية، والحروب التي امتدت على مدى قرن من الزمان، بدءاً من حرب القرم في القرن التاسع عشر، وانتهاءً بسيطرة «داعش» على مدينة الرقّة التي اتخذها التنظيم الإرهابي عاصمة لـ«دولته الإسلامية» المزعومة.
تحتشد الرواية بالكثير من الأحداث التي تدور في مدن عدّة مثل دانزيغ، وبراغ، وبيت لحم، والقاهرة، وبيروت، وكولونيا، وهايدلبرغ، والرقّة، وغيرها من المدن والحواضر العربية والعالمية. وعلى الرغم من تعدد الشخصيات، وكثافة الأحداث، وتنوّع الأمكنة، وامتداد المدة الزمنية إلى قرنٍ أو يزيد، إلا أن العمود الفقري للرواية يعتمد على ثلاث شخصيات نسوية، وهي الجدة كرمة، والبنت نجوى، والحفيدة لميس أو «لولو»، كما يُطلقون عليها تحبباً. أما الشخصيات الرجالية فتحضر لتؤثث النص السردي، وتُكمل سير الأحداث بالدرجة الثانية، وكأنّ الروائية تتعمّد إزاحتها من المتن إلى الهامش، فما إن تومض الشخصية الرجالية حتى لو كانت مهمة مثل نجيب أو عبّود أو نيكولاس، لكنها سرعان ما تنطفئ أو تغيب متلاشية خلف الشخصيات النسوية الثلاث اللواتي يهيمنَّ على مساحة كبيرة من المتن السردي للرواية.
تتألف الرواية من سبعة فصول يتعانق فيها الشكل مع المضمون، إذ تنحو الأحداث منحى بوليسياً منذ الفصل الأول، الذي عنونته الروائية بـ«جريمة صامتة» لن تتكشّف حقيقتها إلا في الفصل السابع والأخير «بيغ بانغ»، بينما تغيب تماماً على مدار الفصول الخمس الباقية: «سجل عائلي»، «رائحة الهجر»، «ليالي المقطورة الأخيرة»، «يوم التفّاحة»، و«رجال كارمن الثلاثة».
تُعيدنا استذكارات لميس وعبّود في مدينة كولونيا إلى الرقّة التي شكّل فيها الرجال الذين ذهبوا إلى أوروبا الشرقية للدراسة «كومونة» تختلف عن بقية الوحدات السكنية في المدينة، وأنجبوا أولاداً وسيمين مُهجّنين أسموهم أولاد الأجنبيات الذين يقطّرون الفودكا في منازلهم، ويستمعون إلى الموسيقى الكلاسيكية. وقد منحت هذه العائلات المتنوّرة مدينة الرقّة أجنحة تحلّق بها في فضاء الحرية الذي لا تسمح به منظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية في سبعينيات القرن المنصرم. لم ينسجم أسعد مع زوجته التشيكية «آنا» التي أنجبت له ولدها الوحيد عبّود، وحين تزوّج عليها عادت إلى براغ على أمل أن يعود لها ابنها ذات يوم.
تنجح شهلا العجيلي في تشييد البنية المعمارية للرواية حين تمنحها طابعاً بوليسياً، حيث يرتدي عبّود، بالاتفاق مع لميس، جورباً أسودَ في رأسه ويعتلي شبّاك الجدة ليخيفها فتموت من الرعب، لكن الحفيدة تشعر بالإثم وتأنيب الضمير على مدى خمس وعشرين سنة وتتعطّل فيها صداقاتها، ومشروعاتها، وأحلامها الرومانسية. وبما أنّ أحداث الرواية واسعة ومتشعّبة، ولا يمكن الإحاطة بها جميعاً، لذا سنتوقف عند أبرز المحطات الرئيسة فيها. فالجدة التي ماتت من «الرعب» كانت راقصة في صباها مع «فرقة بديعة مصابني» الشهيرة التي تتنقل بين القسطنطينية، وبيت لحم، والقاهرة، وبيروت حتى تتعرّف على الآغا إبراهيم الذي ينتشلها بسيارته «البونتياك» الزرقاء، ويأتي بها إلى الرقّة، لكن ماضيها يظل يطارد أفراد الأسرة برمتها، ويقف حائلاً أمام تحقيق بعض الأمنيات التي تدور في أذهانهم. ومع ذلك تُنجب كرمة «نجوى ونجيب»، حيث تضطر نجوى للزواج بعامر، بينما كانت تحب شقيقه فارس الذي يعتقد أن رجولته معطّلة، وينتهي الأمر به في اليونان مع زوجته التي تعرف عليها فيما بعد في أحد البيوت المشبوهة. أما شقيقه عامر فكان يمارس خياناته المتكررة كلما سافرت الأسرة إلى الخارج، لكن الجرة لن تسلم دائماً فقد أخرجته نجوى ذات يوم من غرفة «أحلام»، وقد أُصيب بالجلطة، فلم تعد هي إلى البيت، وسوف يلتحق عامر بأخيه في اليونان لتُصبح امرأة مهجورة من قِبل رجلين شقيقين. وحين يأتي نيكولاس، العالم الفلكي الذي يعمل أستاذاً في «جامعة ميونيخ» يصبح رجلهما المشترك، فتتعقد شخصية لميس حين تراه يحنو على أمها، وقد شعرت في تلك اللحظة أن شيئاً ما قد تهاوى في داخلها فتنقطع إلى عالم الخيل، بينما تنْشدّ الأم إلى عالم الكواكب والمجرّات. تتفاقم معاناة لميس بسبب الغياب، فلقد غاب عبّود حين ذهب إلى براغ ومنها إلى كولونيا، وغاب الأب في اليونان، وثمة احتمال لغياب الأم التي تعلّقت بهذا العالم الألماني وتماهت معه في قصة حب لم تعد خافية على أحد. في عالم الخيل نتعرّف على أبي ليلى وزوجاته الأربع وما تعرّض له أولاده الثلاثة الذين اشتركوا في المظاهرات المناوئة للنظام، حيث يتهمهم الوالد بالتخريب والخيانة، فيما يتهمونه بالعبودية للسلطة. لقد قضت لميس صيفاً كاملاً مع عدوها نيكولاس الغارق في خرائط الحب، وأطالس السماء، مُذكراً إيانا بالعالم الفكلي البتّاني الذي صحّح الكثير من أوهام بطليموس عن الأبراج والنجوم وحركة الأرض. يعود نيكولاس إلى ألمانيا فتعاني الأم وابنتها من الفراغ القاتل، فتدخل الأم في سن اليأس بعد رحيل نيكولاس.
تندلع المعارك بين «قسد» (قوات سوريا الديمقراطية) و«داعش»، فينزح الأهالي عن الرقّة، وتموت الأم ميتة بشعة، إذ تنبتر ساقاها، بينما تصل لميس إلى كولونيا لتلتقي عبّود وتصارحه بالجريمة المشتركة التي ارتكباها معاً حين وافقته على إفزاع جدتها، وبعد نقاشات طويلة متوترة نكتشف أنّ الجدة قد وقعت في المطبخ وماتت بالجلطة، ولم تكن في سرير نومها.
ثمة حكايات أخرى تشبه الأضلاع المحنية المتصلة بالعمود الفقري مثل قصة كارمن، وأمها الشاعرة البولندية التي سوف تكتشف بعد أكثر من خمسين عاماً أن زوجها هو الذي قصف منزلها وقتل أفراد عائلتها. وهناك قصة نجيب، شقيق نجوى الذي انتمى للحزب الشيوعي المعارض للنظام، فاعتقلوه ومات في المعتقل. ولعل قصة محمد فارس، رائد الفضاء السوري هي الأكثر رمزية ودلالة. وكان هذا الرائد قد انشقّ عن النظام وهرب مع عائلته إلى إسطنبول، ليكشف عن بشاعة النظام القعمي الذي شتّت السوريين في مختلف أرجاء العالم، ومن خلال هذا الشتات ترصد الروائية التحولات الكبرى في سوريا والعالم العربي.