الاغتراب في الرواية «أرض اليمبوس»للراحل إلياس فركوح
أ. د. سلطان المعاني
يتوجه عنوان الرواية الرئيس إلى تكريس سلب الحرية في الأنساق كافة، فالمكان فضاء مفترض، لا وجود له في الحياة الدنيا، فهو مكان ميتافيزيقي متوهم يفتقر إلى معايير الواقع الفيزيائية والزمنية، ولنا أن نمضي مع الرواية التي تجعل المكان في زمن آخر ودنيا أخرى وحياة أخرى، وهذا قفز هائل على الواقع، غارق في الغربة لاستحالة التجسيد، وممارسة فعلِ وَطئِه، وحتى في ظنون وتوهمات وصفه. وهو على منحى القبول الاصطلاحي المفترض محل خلاف وجدل في قبوله معياراً متفقا عليه، إذ يغرق في ضبابية الفكرة وجدوى التنفيذ. ويعي إلياس فركوح غربة العنوان في الجانب الثقافي فيما يفرضه من اللامعيارية، ويعمق الهوة بين الدلالة والتأويل وصولا إلى اللامعنى، فكأنما جَسَّدَت عنونة الرواية بعداً معرفياً يحتاج إلى اعتذارية الروائي على عتبات النص في تفسير دلالة العنوان على نسق معرفي موجَّه..
وفي استهواء لعبة الدلالة والاشتقاق.. نقف طويلا على عتبات الرواية.. محاولين البحث عما هو قريب من اليمبوس وليمبوس وليمبو، وماذا يعني لفظا ومصطلحا، وقد رشحت من ذهنية الروائي ومخزونه الثقافي لتكون عنوانا للرواية. الليمبو حسب بعض المصادر هو «الموضع الذي تُترك فيه الأشياء وتنسى» أو ذلك المكان الواقع على «مشارف السماء» المتواجد وسط فراغ زمني واسع. فعنوان الرواية إذا يعني الخواء والنسيان الكاملين، غربة الإنسان على تشكلاتها؛ وهو كيان غائب متلاش عضوياً وسيكولوجيا على المنحى الفردي، وهو في الموضع حيث يترك وينسى، وبهذا هو مغيب اجتماعيا، بل لا يشكل فرداً اجتماعياً لغياب العلاقة مع الآخرين، هو وهم وليس حقيقة.
اليمبوس تقهقر حقيقي يهيء طقس الولوج إلى حالة الاغتراب في حتمية سقوط ركني المكان والزمان؛ على «مشارف السماء» وسط فراغ زمني سديمي.. حيث يتلاشى الإنسان من الكينونة العضوية، ليأخذ الاغتراب أبعادة العامة في فقدان الأهداف الشخصية وتعاطيها موافقة ومعارضة، وتعطيل سلوك الجماعة في غياب المواثيق والقيم والمعايير، وحتى الوظائف والأنشطة والأدوار، وغياب معادلة الإنسان فردا وسط الجماعة، وفق عناصر سلوك الجماعة حسب مالينوفسكي.. «أما نحن ففي الوسط، لسنا هنا ولسنا هناك ، لسنا في الجنة ، ولسنا في الجحيم.. أفي الأرض الحرام نحن؟ أفي مطهر اليمبوس سنبقى نراوح حائرين؟ والحيرة متاهة! أنت تعرف أن الحيرة إحدى متاهات بورخيس الحاث والداعي لنا على التذكر، علينا أن نتذكر كي لا نقضي تحت وطأة كلّ ما جرى..».
إن الخشية من توافق فلسفة العنوان مع عالم الرواية تكمن في دخول عالم وجودي سلبي؛ إذ إن غياب الوجود المادي في عنوان الرواية قد يولد النفور والرفض في مكامن الوجود الإنساني في الذات وللذات وللآخر- وفق سارتر- في عالم الرواية مما يضفي إلى العجز عن المجاراة والطقوسية، أو التمرد والثورة أو حتى الانسحاب. فبعد اللاعقلانية في سلوك الاغتراب الذي يفرضه العنوان تدخل السردية في تشعبات لا يقينية تقود إلى مزيد من الغربة في أقسام الرواية الثلاث السفينة والأسماء واليمبوس مرة أخرى.
وبعد، فقد صدرت أرض اليمبوس لإلياس فركوح، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر العام الفائت، الفين وسبعة، في مائتين وثلاث وثلاثين صفحة من القطع المتوسط.. وقد تقبلتها الساحة الأدبية والثقافية الأردنية والعربية باحتفاء تستحقه، وقد آثرتُ تتبع الاغتراب فيها، ليس لأنه ضابط إيقاعها بالضرورة، ولكنه كَشْفُ قناع مسيرة جيل الروائي المبدع إلياس فركوح.. في رحلة العمر من خمسنيات القرن العشرين إلى يومنا، وما مثلوه شاهدا عياناً على كل رحلة الاغتراب المجتمعي والثقافي والشخصي في خضم الانكسارات والهزائم وضياع الأرض، وقلة الحيلة تجاه فشل محاولات النهضة العربية بكافة أدواتها العلمانية والدينية.. ولمّا كنا عاجزين، كل تلك الفترة، عن الاستفادة مما لدينا من كم هائل من مشاريع النهوض فإن الرواية الأردنية، ومنها رائعة فركوح هذه، شواهد محاولات الفعل الثقافي التبرؤ من الفشل الجاثم إزاء التشرذم والقطيعة والاغتراب الحضاري تاريخياً وواقعاً.
المصدر : الدستور