Skip to main content
مرض باركنسون :بمحض الصدفة.. تقنية جينية تبشر بطفرة في علاج مرض باركنسون

باحثون يتوصلون إلى تقنية علاجية لتحفيز تحوُّل الخلايا العادية إلى خلايا عصبية.. مما أخفى أعراض مرض الشلل الرعاش لدى الفئران .

يُمضي الباحثون أيامهم في محاولة لتفسير نتائج التجارب التي يُجرونها، وأحيانًا يتوصلون إلى اكتشافٍ ما في أثناء البحث عن شيء آخر مختلف. فقد أدت الصدفة دورًا مهمًّا في تاريخ الاكتشافات العلمية، حتى إن بعضًا غير قليل من النظريات الأساسية والمعرفة العلمية التي نحظى بها الآن كانَ وليدَ الصدفة، بدءًا من اكتشاف نيوتن للجاذبية الأرضية وفك رموز حجر رشيد، وصولًا إلى اكتشاف جديد، تمكَّن من خلاله فريقٌ بحثي من جامعة كاليفورنيا- سان دييجو الأمريكية من علاج مرض باركنسون في الفئران عبر تثبيط أحد الجينات في الخلايا النجمية الداعمة. والخلايا النَّجِمية الدَّاعِمة هي نوع من الخلايا الدبقية التي تعمل على تغذية الخلايا العصبية ودعمها لكي تؤدي وظائفها المختلفة.

هذا ما حدث مع الفريق البحثي بجامعة كاليفورنيا- سان دييجو، الذي كان يعمل على دراسة البروتين المسمى PTB، في محاولة لفهم وظيفته بشكل أفضل. والبروتين PTB هو بروتين يرتبط بالحمض النووي الريبوزي RNA لأداء العديد من الوظائف، كما أنه يتحكم في تشغيل عمل الجينات وإيقافه. وعادةً ما يُجرى ذلك النوع من الأبحاث عن طريق تثبيط إنتاج البروتين المستهدَف في الخلايا ومراقبة تأثير ذلك على نشاطها.

راقب الباحثون نشاط خلايا أحد الأنسجة بعد تقليل مستوى إنتاج بروتين PTB فيها، ولكنهم لم يلحظوا أي تغيير سوى حدوث بطء في معدل نمو تلك الخلايا حتى توقفت عملية النمو تمامًا.

ووفقًا للدراسة التي نشرتها دورية نيتشر Nature، اضطر الباحثون إلى ترك الخلايا المزروعة في حضَّانات معملهم، وبدأوا التفكير في طريقة مختلفة لزراعة الخلايا، وبعد عدة أسابيع وجد أحد الباحثين أن خلايا أحد الأنسجة التي زرعوها لم تعد موجودةً سوى بنسبة ضئيلة، ولكنه فوجئ -في الوقت ذاته- بامتلاء الأطباق بنوع من الخلايا العصبية.

اكتشف الباحثون، بمحض الصدفة، أن إيقاف إنتاج البروتين PTB الذي يوجد في العديد من الخلايا، ويقل في الخلايا العصبية حين تبدأ في النضج، يُعَدُّ مُحفِّزًا كافيًا لمختلف أنواع الخلايا كي تتحول إلى خلايا عصبية.

ومن خلال تثبيط الجين الخاص به في الخلايا النَّجِمية الدَّاعِمة، تمكنوا من زيادة إنتاج الخلايا العصبية التي تنتج الدوبامين في أمخاخ الفئران بنسبة تقترب من 30%، مما أدى إلى توقُّف أعراض مرض باركنسون لدى الفئران. وينتج مرض باركنسون بشكل أساسي عن فقد الخلايا العصبية المُصنِّعة للناقل العصبي "الدوبامين".

credit: For Science and Samar Ashraf

لم يكن شيانج دونج فو، الباحث الرئيسي في الدراسة، والأستاذ المتميز في قسم الطب الخلوي والجزيئي في كلية الطب بجامعة كاليفورنيا- سان دييجو، متحمسًا قَط خلال مسيرته المهنية أكثر مما هو عليه الآن. لقد درس منذ فترة طويلة الأساسي البيولوجي لجزيء RNA، وهو ابن العم الجيني للحمض النووي DNA، وعكف كذلك على دراسة البروتينات التي ترتبط به. لكن اكتشافًا جديدًا في مجال آخر تمامًا هو ما أطلق عنفوان حماسه العلمي: علم الأعصاب.

يقول "فو" في تصريحاته لـ"للعلم": "أجرينا سلسلةً من التجارب في محاولة لفهم هذا التحول الدرامي في مصير الخلية. وفي النهاية توصلنا إلى آلية عمل بروتين PTB في قمع الجينات التي تُسبب تكوين الخلايا العصبية، ومن خلال تثبيط إنتاجه في عدة أنواع من الخلايا تمكنَّا معمليًّا من دفعها لتُصبح خلايا عصبية مختلفة الأنواع".

 

 

من خلية داعمة إلى خلية وظيفية

تساءل الباحثون عمَّا إذا كان من الممكن عمل ذلك التحويل في مصير الخلايا داخل المخ بدلًا من الأطباق المزروعة معمليًّا، وبالفعل استخدموا نوعًا من الفيروسات غير المُعدية لإجراء تعديل جيني على الخلايا النَّجِمية الدَّاعِمة داخل أمخاخ الفئران وبرمجتها لتثبيط إنتاج البروتين PTB. يقوم الفيروس غير المُعدي بإدخال تسلسل من الشفرة الوراثية -يحمله ضمن الحمض النووي الخاص به- إلى داخل الخلايا.

في هذه الحالة استخدم الباحثون تسلسلًا من عدد قليل من النيوكليوتيدات -وحدة بناء الحمض النووي التي تحمل الشفرة الوراثية- مضادة لـ"تسلسل الحمض النووي الريبوزي" RNA الخاص بالجين المسؤول عن إنتاج بروتين PTB، يرتبط هذا الشريط المضاد بنظيره، مما يمنع عملية الترجمة والتعبير الجيني، المسؤولة عن إنتاج البروتين داخل الخلية.

أُجريت التجربة على نوع من نماذج الفئران التي تُعَدُّ من أهم النماذج لدراسة مرض باركنسون، حيث تجري فيه مُحاكاة أعراض المرض من خلال حَقن الفئران بمادة شبيهة في تركيبها بالناقل العصبي "الدوبامين"، مما ينتج عنه خداع الخلايا العصبية المنتجة للدوبامين وتوقُّفها عن العمل، فتعاني بذلك الفئران من أعراض مرض باركنسون.

خلال ثلاثة أشهر من العلاج الذي تم على خطوة واحدة اختفت أعراض مرض باركنسون من الفئران، واستعادت قدراتها الحركية الطبيعية. يقول "فو": "وجدنا أن الخلايا العصبية الجديدة قادرةٌ على الاندماج في الدوائر العصبية الموجودة في الدماغ". ويضيف: "من المثير للاهتمام أن تلك الخلايا يمكن إعادة برمجتها إلى أنواع فرعية متمايزة من الخلايا العصبية".

يقول محمد سلامة، وهو باحث مصري من جامعة المنصورة: "إن الخلايا التي تخضع للتحول من خلايا غير عصبية إلى عصبية تمُر بمراحل مختلفة؛ إذ تتحول في البداية إلى خلية عصبية ثم إلى خلية عصبية متمايزة لنوع فرعي محدد من الخلايا العصبية يتحدد وفقًا للموقع الذي يتم فيه حَقن الخلايا في الدماغ، فمثلًا إذا تم حقن الخلايا في "المنطقة السَّقِيفِيَّة البطنية" (VTA) -وهي منطقة في المخ تُنظِّم مستويات الدوبامين- فإن الخلايا العصبية الناتجة ستتمكن من إنتاج الدوبامين".

 

مُستقبل الأمراض العصبية التَّنَكُّسِية

يُعد مرض باركنسون أو "الشلل الرعاش" أحد الأمراض العصبية التَّنَكُّسِية التي تسبب اضطرابًا حركيًّا نتيجةً لتدهور خلايا الدماغ، وخاصةً تلك المسؤولة عن إنتاج الدوبامين، وهو ناقل عصبي يرسل إشارات بين الجسم والدماغ، ويؤدي دورًا مهمًّا في التحكم بالمهارات الحركية والاستجابات العاطفية؛ إذ يُعرف أيضًا بهرمون السعادة.

الجدير بالذكر أنه لا يمكن إعطاء المرضى الدوبامين كدواء بشكل مباشر؛ لأنه لن يعبر من الحاجز الدموي الدماغي الذي يحمي المخ ويمنع وصول المواد الكيميائية الضارة إليه، لذا كان الباحثون في حالة بحث مستمر عن طرق علاجية أخرى، بداية من منع فقدان الخلايا العصبية أو الحماية من تعرُّضها للتلف، وحتى تحويل الخلايا الجذعية إلى خلايا عصبية، ولكن اكتشاف "فو" وزملائه مكَّنهم من إعادة تكوين الخلايا العصبية في خطوة واحدة، ما وصفه "سلامة" بكونه خطوة ضخمة، خاصةً فيما يتعلق بقيامهم بذلك داخل أمخاخ الفئران.

ويعتقد الباحثون أن تلك الطريقة السهلة نسبيًّا ستمكِّننا من علاج أمراض عصبية أخرى، حتى في الحالات المتقدمة من المرض، يقول "فو": "على الرغم من أننا أجرينا تجاربنا على نموذج لمرض باركنسون، إلا أن المبدأ ينطبق بشكل عام على الأمراض العصبية الأخرى". ومشددًا: "ستساعد هذه الإستراتيجية على تجنُّب المضاعفات المحتملة التي تنتُج عن استخدام خلايا غريبة عن الجسم، مثل الخلايا العصبية المشتقة من الخلايا الجذعية".

وتتفق مع ذلك رضوى خليل، باحثة علوم الأعصاب في جامعة جاكوبس بريمن الألمانية، ولكنها تشدد على أنه: يمكننا تعلُّم الكثير من تلك التجربة، ولكننا لن نتمكن من تعميمها بشكل كامل على جميع الأمراض العصبية التَنَكُّسِية؛ إذ إن كل مرض منها له ما يميزه ويجعله مختلفًا عن البقية، لذا لا بد أن نضع في الاعتبار نوع الخلايا التي يجري تدميرها في أثناء عملية التحوُّل، ونحاول تعويضها، وعلينا الانتباه للتأثيرات المحتملة على الدوائر العصبية، سواءٌ على المستوى الخلوي أو مستوى الجسم كله.

وفي سياق متصل، نشرت دورية "سيل" دراسة أخرى مشابهة، أجراها باحثون صينيون -وذلك في فترة مراجعة الدراسة التي نشرها "فو" وزملاؤه- عن البروتين PTB نفسه واستخدام منهج علاجي لتحويل خلايا مولر -وهي نوع آخر من الخلايا الدبقية- إلى خلايا عصبية تنتج الدوبامين؛ من أجل تعويض الخلايا التالفة عند مرضى باركنسون، واستخدم الباحثون هذه التقنية ذاتها لعلاج أحد الأمراض التَّنَكُّسِية التي تصيب الخلايا العصبية الموجودة في شبكية العين، مُسببةً العمى الدائم.

 

ماذا بعد؟

تبدو نتائج الدراسة واعدةً ومُبشرة لمرضى باركنسون، ولكن علينا التَّأنِّي، يقول "سلامة": قضى العلماء سنوات عديدة يحاولون استخدام أساليب الطب التجديدي -مثل الخلايا الجذعية، وإعادة برمجة الخلايا- لتعويض ما يُفقد من الخلايا العصبية في الأمراض التَّنَكُّسِية، ونجحت تلك الأساليب في الحيوانات الصغيرة مثل نماذج الفئران، ولكن عند انتقال بعض هذه التجارب إلى مستوى أعلى "مثلًا التجارب على البشر" فإن النتائج عادةً لا تكون واعدة، وهذا ببساطة لأن علاج البقع التالفة لا يعالج الأمراض المعقدة ذات الأسباب المتعددة، لذا من الأفضل تناوُل تلك النتائج بحرص، وألا نعلق آمالًا كبيرة عليها دون إجراء العديد من الخطوات التأكيدية.

وتعتقد "خليل" أنه من الصعب الانتقال إلى التجارب على البشر الآن؛ إذ إننا لا نزال بحاجة إلى أنواع أخرى من التجارب التي تشمل جميع المستويات على القوارض، وكذلك على كائنات حيوانية أخرى، ودمج النتائج مع الأبحاث القديمة حول الدوائر العصبية الموجودة في الدماغ، وبعد ذلك يمكننا التفكير في الانتقال إلى المرحلة التالية ودمج هذه التقنية مع الإستراتيجيات المتاحة لعلاج مرض باركنسون، لنرى إن كنا نستطيع استخدامها على البشر.

ويقول "سلامة": "إن استخدام نموذج من الفئران لا يمثل جميع جوانب مرض باركنسون، ويفتقر إلى الطبيعة المعقدة للمرض، مثل تأثير العوامل الوراثية والبيئية التي تسبب تلفًا تدريجيًّا بطيئًا للخلايا، وعلى الرغم من أن ذلك النموذج متعارف عليه، وعادةً ما يُستخدم في ذلك النوع من التجارب، إلا أنه لا بد من إجراء المزيد من الأبحاث واستخدام نماذج من رتبة الرئيسيات".

وأضافت "خليل" أن الدراسة أُجريت على منطقتين فقط في الدماغ، في حين أن هناك عدة مناطق أخرى تحتاج إلى الدراسة والفحص، خاصةً عند دراسة مرض تنكُّسي مثل باركنسون يتضمن دائرة عصبية تربِط بين العديد من المناطق في الدماغ، كما أن الدراسة لم تتطرق إلى الأثر المتوقع على الدوائر العصبية.

يخطط "فو" وزملاؤه لدراسة كل هذه النقاط المهمة خلال خطواتهم البحثية القادمة، إذ يقول: "نحتاج إلى تحديد المخاطر المحتملة للتقنية الخاصة بنا، على سبيل المثال، تأثير نقص أعداد الخلايا النَّجمِية نتيجةً لتحوُّلها، كما أن إنتاج العديد من الخلايا العصبية الجديدة قد يتسبب في آثار جانبية غير ملحوظة تحتاج إلى الدراسة".

ويشدد بقوله: "علينا التأكد من أن الخلايا الجديدة يمكنها أن تنمو إلى مسافات طويلة في أدمغة أكبر، وذلك من خلال دراسات تفصيلية على الرئيسيات من غير البشر، كما نحتاج إلى تطوير إستراتيجيات أكثر فاعليةً لبرمجة الخلايا في الحيوانات الهَرِمة".

 

المصدر : للعلم 

22 Aug, 2020 12:49:04 PM
0

لمشاركة الخبر