"كلنا مصابون بالأرق".. يأس وأمل ما بعد انفجار بيروت
أكثر من ثلاثة أسابيع مضت تقريباً على انفجار مرفأ بيروت، وما زالت المدينة وسكانها تحت وقع الصدمة، ذاكرة المكان امّحت أكثر من مرة، بيوت تحل محل بيوت، ومقاه تختفي وتظهر مكانها متاجر تختفي بدورها وتظهر مكانها مقاهٍ، مسرح يقفل وآخر يحاول البقاء على قيد الحياة، مهاجرون يفكرون في العودة، وأثناء ذلك يغادر مهاجرون جدد، تبدو بيروت وكأنها في حالة إعادة إعمار أبدية؛ دئماً ثمة ما يعطّل سيرورة الحاضر ويغلق الباب دون المستقبل. ودائماً ثمة من يعيد ترميم حياته التي هي جزء من حياة المدينة ويبدأ من جديد فتتحرك بيروت من جديد مع أهلها.
خسائر الانفجار كثيرة، المادية يمكن إحصاؤها أما تلك المعنوية والنفسية فلا يمكن لأحد أن يحصيها، كل من وقعت عليه الكارثة لديه جرح ما. لكن بيروت لطالما كانت مدينة ترمم نفسها وجراحها بالفن، سمعنا الكثير من قصص الغناء في ملاجئ الحرب، وعن حفلات موسيقية تحت القصف ومعارض فنية ومعارض كتب ودور نشر تطبع رغم الحواجز والمليشيات. وهذه المرة أيضاً وقعت الشظايا على المؤسسات الثقافية وعلى الأعمال الفنية وعلى معارض ومكتبات وبيوت تاريخية ومتاحف.. "العربي الجديد" جمعت بعض الشهادات من فنانين ومؤسسي صالات عرض وقيّمي متاحف ومؤسسات ثقافية، بعد أن مرّ بعض الوقت من الحدث الرهيب.
المؤسسة العربية للصورة: على بعد 600 متر من الانفجار
الصورة
نافذة محطمة في مبنى المؤسسة العربية للصورة (المصدر)
في الجميزة، الطابق الرابع من بناية زغيب، تقع "المؤسسة العربية للصورة"، في الحيّ القريب من المرفأ والذي يعد أحد أكثر الأحياء تضرراً من الانفجار. فارتان أفاكيان، عضو الهيئة الإدراية في المؤسسة، يتحدث إلى "العربي الجديد"، يبدأ شهادته بتأكيده على أن أهم شيء أن أحداً من الموظفين لم يتأذَ بشكل بالغ، أحد العاملين في المؤسسة أصيب بجرح في ركبته، وهناك شخصان في محيط المكان أصيبا بجروح طفيفة.
أما بالنسبة إلى أرشيف المؤسسة فهذه قصة ثانية، يقول "المبنى قريب من الانفجار، نحن نبعد تقريباً 600 متر منه، وبالرغم من أنه قد تضرر بشكل كبير، لكنه ليس مهدداً بالانهيار. أبواب الحديد المضادة للحريق تدمرت، تضررت كل الأجهزة ومحتويات المؤسسة، أما غرفة الأرشيف فقد انهار أحد حوائطها وسقفها وسقط من الرفوف الأربعة التي تحمل صناديق الأرشيف اثنان".
تحتوي المؤسسة على غرفة مبردة مخصصة للحفاظ على الأرشيف، وهذه تحتاج اليوم إلى إعادة بناء، يوضح أفاكيان: "في الأيام الأولى قمنا بنقل محتويات الأرشيف إلى مكان حرارته مناسبة، ولكنها ليست مثالية للأرشيف الذي يحتوي على 200 ألف قطعة صورية، لم نستطع حتى الآن التأكد من سلامة كل المحتويات وتقييم حجم الضرر إن وقع على شيء منها، نحن بحاجة معاينة كل علبة، لكن حتى وإن لم تتلف هناك تخوف من أثر كمية الغبار والتراب التي تسربت إليها".
لحسن الحظ، فإن جزءاً أساسياً من الأرشيف مرقمناً على سلسلة من الـ "هارد ديسك"، بحسب أفاكيان، أحدها موجود في متحف سرسق للحفظ، وهناك أقراص صلبة للاحتياط موزعة على ثلاثة مواقع مختلفة. يحتاج مبنى المؤسسة والموقع المحيط به إلى عمليات ترميم طويلة الأمد، فهل ستبقى المؤسسة في هذا المكان؟ نسأل أفاكيان الذي يقول: "ما زلنا نبحث الأمر، الأهم اليوم هو أن نفكر في تأمين موقع أكثر استدامة على المدى الطويل وأكثر فاعلية"، موضحاً "كان طموحنا قبل الانفجار، وقبل كورونا، وقبل الأزمة اللبنانية أن نصل إلى أكبر تفاعل مباشر مع الناس وعبر المنصة الإلكترونية، كان من أولوياتنا التواصل أكثر مع الباحثين والطلاب، نحن مضطرون الآن إلى إخلاء المكان ولكن هل سنعيد بناء مكاننا الحالي ونستمر فيه أم ننتقل إلى سواه، ليس لدينا قرارات بعد".
وحول سؤالنا عن كلفة الترميم وإعادة بناء غرفة خاصة للأرشيف يجيب أفاكيان "الحقيقة لم نحدد الكلفة بعد، كان كل همنا الفترة الماضية هو الاهتمام بفريقنا وبعضنا، كلنا كنا متضررين بشكل أو بآخر، وقد شكلت المؤسسة فريقاً من الخبرات التي كنا منذ بدء الأزمة المالية متخوفين من خسارتهم، فهي خبرات تراكمت على مدى سنوات".
آني كوركدجيان: كلنا مصابون بالأرق
الصورة
من أتيليه آني كوركودجيان، تصوير الفنانة
"كل من أعرف لم يستطع النوم تلك الليلة، بعد الانفجار، كنت أنام وأستيقظ كل ساعة تقريباً وكلما استيقظت أبكي، وبقيت هكذا لعدة أيام"، تقول الفنانة آني كوركدجيان لـ "العربي الجديد"، وتضيف: "انتهيت من لوحة وأخذت استراحة وخرجت من الأتيليه في الأشرفية، في البداية هبت ريح وبدأت الأشياء في التساقط، واستغرقني وقت إلى أن أدركت أن شيئاً خطراً يحدث، تتالت انفجارات صغيرة، ثم وقع الانفجار الكبير، أبوكاليبس".
تتابع: "الجميع كان على الطريق يبكي وكل شيء مكسو بالزجاج المهشّم، كل بيروت زجاج، لم يصب أحد من عائلتي، لكن كنت خائفة من التحرّك، هل سيقع انفجار جديد؟ الراديو لم يكن يبث شيئاً مفهوماً، لا أحد كان يفهم ما حدث. انتظرت أكثر من ساعة إلى أن تمكنت من العودة إلى البيت، كان كل شيء مُبكياً، ومحطماً، كل شيء في بيتي كان قد تكسّر، لوحاتي ملقاة على الأرض وسريري امتلأ بالزجاج، في الليل قيل لنا إن الهواء مسموم بعد الانفجار وأن علينا أن نغلق النوافذ لكي لا نتنشقه، لكن لم يكن هناك نوافذ لنغلقها أصلاً".
تتابع كوركدجيان: "في الأتيليه وجدت لوحاتي مكسرة أو ممزقة، بعضها مثقب، جدار تحطم، النافذة التي تجاور طاولة الرسم انهارت عليها، ولو كنت أرسم حين وقع الانفجار، لما نجوت. بحثت عن قطتي طويلاً ولم أجدها حتى هبط الليل، كانت مختبئة وفزعة". الآن طيلة الوقت تتابع كوركدجيان الأخبار، وهذا ليس من عاداتها: "أنا لا أتابع التلفزيون، حياتي كانت كلها موسيقى وسينما، والآن كلها كذب، أسمع من الصباح إلى المساء الكذب ولكن لا أستطيع إلا أن أسمع".
حتى قبل الانفجار والاستمرار في لبنان صار أصعب، تقول كوركدجيان: "أنبوب الألوان صار ثمنه 80 ألف ليرة ، عملياً لم يعد ممكناً الاستمرار، لكن أحب لبنان، لا أستطيع أن أغادر هكذا، الوضع بشع من سنين، كنت أتأقلم من خلال الفن أرسم ويعطيني الرسم أوكسجين وأعرض في الخارج، أسافر وآخذ مسافة ثم أعود".
"الفن طريقة نضال، أنا ولدت عام 1972، الحرب الأهلية بدأت عام 1975 ولم نغادر لبنان، يعني أنني عشت الحرب الأهلية من الألف إلى الياء، ولديّ في عائلتي تراجيديا خاصة أثناء الحرب، أعرف نفسي وهناك شر وهناك قذائف وهناك أحد يريد أن يلغي الآخر، هذا كله أصبح جزءاً منّي، كل شيء يتحول إلى شكل، كل شعور أخلق له شكل يخرج مني ويصبح له هوية خارج ذاتي، وهكذا كنت أحرر نفسي من عبثية الحرب والقلق".
"لا أرسم بيروت، لم أفعل من قبل ولا أظنني سأفعل الآن، من الممكن أنني استبطنها عند العمل، لكني انطوائية أفكر في تفكيك نفسيتي وأفهم ذاتي من خلال عملي الفني، ما أستطيع أن أحوله إلى فن هو أنا". وتضيف كوركدجيان ملخصة حديثها: "الشعور المهيمن عليّ الآن هو عدم الأمان، شعوري بأن مصيري معلق بشيء خارجي، الحد الأدنى من الأمان لم يعد موجوداً، أن أكون متحكمة في ما الذي سأفعله غداً، يبدو الأمر وكأنني أتابع الأخبار لأعرف ماذا يمكن أن أفعل في حياتي غداً، هل يمكن أن أقابل أحداً الساعة الثالثة، هل يمكن أن أقدر على إرسال بريد لأحد، هل سيمكنني سحب مبلغ ما... حياتي الشخصية كلها".
متحف سرسق.. عودة إلى أيام الترميم
الصورة
متحف سرسق، 5 آب 2020، Getty
كانت الساعة تقارب السادسة حين وقع الانفجار، "سرسق" أغلق أبوابه ولم يبق إلا بعض الموظفين، وفجأة تحطمت النوافذ الملونة وانخلعت الأبواب وحتى الحديدي منها لم يصمد أمام العاصفة وتدمرت أبواب الطوارئ وسقط كل ما هو مصنوع من خشب، سقطت اللوحات تحطم بعضها وبعضها امتلأ بالثقوب، ولحسن الحظ كان معظم الموظفين قد غادروا ولم يصب أحد إصابة خطرة.
تقول ميرييل قهوجي، المسؤولة الإعلامية في المتحف لـ "العربي الجديد"، إن الطوابق كلها لحق بها الضرر، لكن الطابق الثاني كان أكثرها تدميراً، تضيف: "عشرون لوحة تعرضت للضرر جراء الانفجار، منها أربعٌ عاينتها خبيرة ترميم وصنفتها بأنها لا يمكن ترميمها، كذلك تضررت منحوتتان وتمزق الكانفاس للوحة بورتريه لنقولا سرسق من عام 1930، وتلفت عدة أعمال للفنانة سيمون فتّال من المجموعة الدائمة.
ومن بين الأعمال التي تعرضت للضرر خلال الانفجار لوحات لبول غيراغوسيان، وأسادور، وجورج قرم، وصليبا الدويهي. حين افتتح متحف سرسق عام 2015، كان قد مضى على عملية ترميمه ثمانية أعوام، ووصلت كلفتها إلى ملايين الدولارات، ورغم أن المتحف لم يقم حتى الآن بتقييم كلفة الترميم، لكنه تلقى الاتصالات التي تؤكد دعمه من يونسكو ومؤسسة الأمير كلاوس ومن أفراد داعمين، أما مركز "بومبيدو" في باريس فعرض ترميم اللوحات. كذلك سوف يقوم المتحف بحسب قهوجي بإطلاق حملة تبرعات إلكترونية لتغطية كلف الترميم.
عبد القادري.. رحيل الوردة الأخيرة في "تانيت"
الصورة
من حطام معرض عبد القادري في غاليري "تانيت"
قبل الانفجار بأسبوع افتتح معرض الفنان عبد القادري "رفات آخر وردة حمراء على وجه الأرض"، في غاليري "تانيت"، الكاتالوغ كان قيد الطبع حين وقع الانفجار، ربما يكون غاليري "تانيت" من أكثر صالات العرض التي تعرضت للتدمير في بيروت حيث تدمر بالكامل وتهدمت جدرانه.
يقول القادري لـ "العربي الجديد": "كنت أسير في الشارع، ولم أفهم الذي يحصل إلى أن أدركت حجم الانفجار، بمعنى أن كل ما أتذكره الآن عشته في لحظات ما بعد الانفجار"، ويتابع: "في الغاليري حاولت أن أخرج أعمالي المطمورة تحت الردم، كلها تضررت بشكل ما، بعضها أتلف بالكامل.
16 عملاً بين صغير وكبير بعضها انثقب أيضاً". يقول الفنان اللبناني إن للأعمال الفنية حياتها، وكما يحدث أثناء العمل حين يفرض العمل توجهاً ما على الفنان، فإن هذه التجربة أصبحت جزءاً من تاريخ هذه الأعمال. لن يرمم القادري اللوحات ولن يعيد الاشتغال عليها، إنه يعمل الآن على مشروع آخر متعلق بالكارثة، وفيه تحية للمعماري جان مارك بونفيس (1964-2020) الذي قضى في الانفجار وهو مصمم المبنى السكني للقرية الشرقية الذي يضم غاليري "تانيت" في حيّ مار مخايل.
يختم القادري بالقول: "بيروت جزء من تكويني النفسي والعاطفي، وعلاقتي بالمدينة ارتبطت دائماً بالحرب والدمار، عدت من إقامتي خارج لبنان وافترضت أننا وصلنا في البلاد إلى شيء من الاستقرار، لكن ما حدث صدمة كبيرة، لا تشبه كل الصدمات السابقة، ثوانٍ قليلة تركت أثراً أكبر مما يمكن لحرب طويلة أن تفعل".
غاليري art 56: كان المشي بطريقة مستقيمة مستحيلاً
الصورة
غاليري art 56، تصوير: نهى محرّم
صوتها ما زال مرهقاً وذاهلاً، كأن الانفجار وقع أمس، تقول إنها شاهدت ما لن تنساه أبداً، وإن الطريق من الغاليري إلى المستشفى كان أطول طريق مشته في حياتها، صاحبة ومديرة غاليري art 56 نهى محرّم، تضيف لـ "العربي الجديد": "كان المشي بطريقة مستقيمة مستحيلاً، كان كل شيء على الأرض، كأن البيوت أفرغت محتوياتها في الطريق".
يبعد الغاليري شارعين بالضبط عن موقع الانفجار، وقد تهدمت بنايته التاريخية تماماً. تصف محرم لحظة الانفجار بقولها كأن شيئا حملني وألقاني من غرفة إلى غرفة أخرى، أصيبت نهى في ساقها وأجريت لها عملية جرّاء إصابتها. أتلفت مقتنيات المعرض من الأعمال الفنية.
تقول: "تسعة أعوام وأنا أكرّس حياتي ووقتي للغاليري، أخذت الوقت حتى من عائلتي ووضعته في العمل، لا أعرف إن كنت أستطيع أن أبدأ من جديد مرة أخرى، وحتى إن كان هناك طاقة وقوة هل سيتركون لنا الأمل؟ أكره التفكير أن البلد حالة ميئوس منه، لكن نحن بحاجة إلى الأمل الآن أكثر من أي شيء آخر".
"البناية التي تأسس فيها الغاليري مرممة أصلاً وعمرها مئة عام"، تقول محرّم مضيفة "خسرنا لو الج\حات تقدر بمائتي ألف دولار، وهذا تقدير فقط لأنني إلى الآن لم أقم بإحصاء شيء، لكن كل شيء آخر تدمر: الكمبيوترات والكاميرات والأثاث". تلقى الغاليري الكثير من اتصالات الدعم لكن لا يوجد شيء رسمي إلى الآن، تشرح: "نحن بنينا كل شيء من اللحم الحيّ وقد انفجر الفساد في وجوهنا، إعصار حطم كل شيء وإن عدنا للبدء من الجديد فسيكون من الصفر، حتى بيوتنا التي كنا نعتقد أنها أماكن آمنة لم تعد كذلك".
المصدر:العربي الجديد