"الغشاشون" لكارافاجيو تجدد في استخدام النور والمشهدية المسرحية
لم يعش الرسام الإيطالي ميكال آنجلو ميريزي المعروف بلقبه "كارافاجيو"، طويلاً. كذلك فإن السنوات القليلة نفسها التي عاشها لا تخلو من غموض بالنظر إلى أن ذلك الفنان عاش حياة صاخبة حافلة بشتى أنواع التناقضات والغموض، وصولاً إلى نهاية لا تزال تشكل حتى اليوم لغزاً لا يسهل حله. فكارافاجيو بدلاً من أن يموت بشكل طبيعي، اختفى هكذا ذات يوم دون أن يحفظ لنا التاريخ بشكل قاطع مكان اختفائه، ولا تاريخه المحدد، وإن كان ثمة من بين الباحثين من يحدد يوم 18 يوليو (تموز) من عام 1610، إنما دون أن يعرف ما إذا كان مسرح اختفائه منطقة بورتو إركولي، أو منطقة تشفيتا فيكيا، على الأقل ثمة إجماع على أن "اختفاءه" كان ناتجاً من إصابته في واحدة من تلك "الخناقات" الكثيرة، التي لم يكن يعرف كيف يعيش من دونها. وفي هذا البعد الأخير فقط، تمييز له عن خليفته المعاصر في الفن والتناقضات الحياتية، السينمائي/الشاعر بيار باولو بازوليني، الذي سيظل كثر يتساءلون عما إذا لم يكن من شأنه لو عاش طويلاً بدلاً من أن يُقتل، كما حدث لكارافاجيو، في "خناقة" على شاطىء أوستيا، أن يحقق فيلماً عنه. فثمة بين الاثنين نقاط مشتركة عديدة يمكن القول إن خوض الإبداع في أرقى مستوياته كانت واحدة منها.
حياة مصنوعة من التناقضات
الحال أننا ندنو هنا من واحدة من أبهى سمات التناقض في حياة كارافاجيو ومساره هو الذي لم يرض بالحلول الوسط، فوجدناه خلال نحو الأربعين سنة التي عاشها، يتأرجح بين رسم أعظم المشاهد الدينية لأعظم الكنائس الإيطالية، ورسم مشاهد الحياة اليومية في أكثر تجلياتها ابتذالاً في بعض الأحيان. بل كثيراً ما كان يحدث له أن يستخدم صبياناً كموديلات له يرسمهم حيناً قديسين صالحين، وحيناً "زعرانا" من أسفل المستويات.
من هنا كان من الطبيعي لرسام فرنسي كلاسيكي متأنق مثل بوسّان أن يقول حين وصل يوماً إلى روما وسئل عن رأيه بكارافاجيو إن "هذا الرجل إنما وُجد كي يدمر الفن". والحقيقة أن الفن الذي كان يعنيه بوسّان ولا يحترم غيره، كان الفن النهضوي الكلاسيكي، الذي يشكل فن كارافاجيو انقلاباً حقيقياً عليه، شكلاً ومضموناً. فمن ناحية الشكل كان كارافاجيو المبتكر الحقيقي لفن الضوء والعتمة أستاذاً لرمبرانت، وفيرمير معترفاً به في ذلك المجال. وهو بهذا الأسلوب الرائع عرف في الحقيقة كيف يثوّر فن الرسم. تماماً كما أن في سلوكه ما يسمى بـ"رسم النوع" (أي رسم مشاهد الحياة اليومية العادية على الطريقة التي سوف تُنسب لاحقاً إلى الهولنديين)، عرف كيف يُحدث ثورة في الأنواع، وفي غاية الرسم.
الأهمية في فن هذا الفنان، الذي كان استثنائياً في حياته كما في فنه.
في حماية الكاردينال
لم يكن للوحة كارافاجيو هذه وجود حتى نهايات القرن العشرين، وإن كان كثر من الباحثين يحدسون بأنها سوف تُكتشف يوماً، وذلك بالاستناد إلى لوحة أخرى تعتبر توأمها هي "قارئة البخت"، التي رسمها كارافاجيو فيما كان مستضافاً ذات حقبة في دارة الكاردينال ديل مونتي الذي تولى حمايته في تلك المرحلة من حياته. فالفنان رسم تلك اللوحة عام 1595 سالكاً فيها دروباً جديدة، بدت أقرب إلى المشاهد المسرحية القريبة من "الكوميديا ديل آرتي" مركزاً كما دأبه على لعبة النور والظل، مشتغلاً على مصدر الضوء كما على النظرات ذات المعنى.
أمام هذه التجديدات في الشكل والمضمون، كان الباحثون يرون أن تلك اللوحة من المستحيل ألا تكون لها أخوات. وهم كانوا على حق أكده العثور في مجموعة خاصة على لوحة "الغشاشون" التي تبين بالفعل أن الرسام أنجزها كذلك عام 1595 أي قبل نحو أربعين عاماً من إنجاز الفرنسي جورج ديلا تور لوحة مشابهة عنوانها "غشاش الآس المربع".
فن دون نساء
في لوحة كارافاجيو التي اشتراها متحف كيمبل في تكساس عام 1987، لتصبح واحدة من أشهر مقتنياته، التي لا يزيد عرضها عن 131 سم مقابل ارتفاع يبلغ 94 سم، يلعب كارافاجيو كعادته لعبة النور والظل مركزاً على مصدر الضوء، لكنه كعادته كذلك في معظم لوحات الحياة اليومية التي رسمها منذ بداياته، يستبعد حضور العنصر النسائي تماماً (عندما كانت المرأة تحضر في لوحاته كانت تحضر كمحتالة أو كقديسة، فلا تشارك لا في الحياة اليومية ولا في الحياة الدينية إلا بشكل إما أن يكون في أعلى درجات السمو، في اللوحات الدينية، بحيث تفقد خصائص أنوثتها، أو في أسفل مستويات التصرفات المشينة، كحال العرافة المحتالة في لوحة "قارئة البخت" التي أشرنا إليها). المهم أن لوحة "الغشاشون" تبقى مقصورة على الحضور الذكوري، إنما دون أن تفوتنا تلك المسحة الرائعة من الحسن، التي تميز ليس فقط وجوه شخصياته الأساسية المرسومة، بل كذلك أناقتها التي تكاد تكون أنثوية. ولا تشذ الشخصيتان الأساسيتان في هذه اللوحة عن ذلك. صحيح أن لدينا هنا ثلاث شخصيات لكن اثنتين منها فقط تشكل أساس اللوحة وموضوعها، فيما لا تعدو الشخصية الثالثة كونها دوراً قد يعد ثانوياً في سياق موضوع اللوحة. هي شخصية المحتال المساعد الذي يراقب أوراق أحد اللاعبين (أي ضحية عملية الغش) وتفاصيل لعبته، ليشير بذلك إلى الخصم المتواطىء معه والجالس مديراً ظهره إلى مشاهد اللوحة وفي نظرته ما يشي (حتى وإن كنا لا نلتقطها تماماً) كل ترقب الغشاش الذي ينتظر لحظته ليربح من طريق الخداع بالتقاط ورقة لعب يخبئها بين ثيابه، وذلك تبعاً لما يشير به المتواطىء معه.
في المقابل عرف كارافاجيو كيف يرسم كل سمات البراءة والنزاهة ليس فقط في نظرات وملامح الضحية، بل كذلك تلك الأناقة الخالصة التي تسم ثيابه التي يغلب عليها الطابع الأنثوي حتى في مقاييس العصر الذي يدور فيه المشهد. ومن هنا يمكن بكل بساطة ضم هذه الشخصية إلى تلك الشخصيات العديدة المؤلفة من غلمان عرف كارافاجيو كيف يرسمهم في عشرات اللوحات في مشاهد أبولونية مليئة بالفن، والحب، والحيوية التي تشي بما كانت عليه حياته هو نفسه في عقودها الثلاثة الأولى على الأقل.
مهما يكن إذا كانت هذه اللوحة تنتمي إلى ذلك الجانب الحياتي اليومي من مسار فن كارافاجيو، فإنها تضيف إليه جانباً مسرحياً كما أشرنا، وهو نفس الجانب المسرحي الذي يمكننا تلمسه حتى في لوحاته الدينية التي كان يحدث لها غالباً أن تُرفض من المراجع الدينية، وتتسبب في مطاردة الفنان وسجنه. ومع هذا لم تكن مطاردة كارافاجيو وسجنه في حاجة إلى إخلاله بعقوده المتعلقة برسم لوحات للكنائس لم يكن في مقدور الكنائس قبولها. فهذا الفنان لم يكن يخرج من سجن إلا ليدخل في غيره، وغالباً لأسباب غير فنية إلى درجة قال معها باحث إن مسار حياته يبدو كأنه تقرير للشرطة.
سيرة صاخبة غريبة
تقول سيرة كارافاجيو أنه ولد عام 1571 في قرية مجاورة لقرية "كارافاجيو"، التي سينسب إليها والتي سيعود ويهرب منها طفلاً تفادياً للطاعون الذي قضى على أبيه. وهو بدءاً من عام 1592 وإثر وفاة أمه، وإذ بدأ يتدرب على الرسم، توجه إلى روما ليقيم بين 1592 – 1593 في دارة الكاردينال ديل مونتي، الذي غمره بحمايته لكنه اضطر للتخلص منه بسبب افتعاله المشاكل يومياً. وفي عام 1599 وقع كارافاجيو عقدين لرسوم كنسية كان في أوج تحقيقها حين تضاعفت مشاكله مع زملائه، ما أدى إلى تدخل القضاء ضده. وهو أمضى السنوات العشر الأخيرة، حتى رحيله الغامض عام 1610 بين الرسم والهرب والمبارزات و"الزعرنة" في الشوارع، واختفى دون أن يدرك أن التاريخ سوف يخلده كفنان وإنسان رغم كل شيء.
المصدر:وكالات