Skip to main content
د.أنور الشعر مفارقات الحرية والجمال في ديوان «فجر وعناق»

د.أنور الشعر  مفارقات الحرية والجمال في ديوان «فجر وعناق» 

 

«فجر وعناق» مجموعة شعرية جديدة للدكتور أنور الشعر، وهو الإصدار التاسع في سلسلة إنتاجه الفكري. وتتضمن اثنتي عشرة قصيدة عمودية وثلاث عشرة قصيدة تفعيلة، كأنّما يريد لصيحة الحرية أن تنشر صداها من خلال بصمات الشّعر الحرّ. جاءت المجموعة في 159 صفحة من القطع المتوسط.

«فجر وعناق» بوابة حقيقية للولوج إلى المجموعة الشعرية، عنوان لأقصر قصيدة، قصيدة تفعيلة على بحر مخلّع البسيط:

«تلألأ الفجر فوق راحتي

سألته: أهربتَ خُلسةً تاركا

أقبية القهر واللّيل إلى

أفضية العشق والنهارْ؟

أجابني: إنني كتمتُ أنفاسهُ

وخارج لأعانقَ الندى والضياء

وأحضُن العشب والأزهارْ.»

كان لزاما عليّ البدء بهذه القصيدة، لأنها البوابة –كما أسلفت- للدخول إلى عالم شعر الدكتور أنور الشّعر، فهي تتحدّث عن الحريّة، كأنّما يحملنا شاعر الورد والجمال إلى عالمه الداخلي عبر أسمى حالات الإنسانية، وهي الحرية. تتحدث القصيدة عن الحرية والانطلاق إلى عالمه الربيعي ذي الأزهار والفراشات والورود والنور، فيستهل كلامه بسؤال موّجه للفجر:

«أهربتَ خُلسةً تاركا

أقبية القهر واللّيل إلى

أفضية العشق والنهارْ؟»

فجاءه جواب الفجر:

«إنني كتمتُ أنفاسهُ

وخارج لأعانقَ الندى والضياء

وأحضُن العشب والأزهارْ.»

هذا الحوار كما أسلفت على بحر مخلّع البسيط، وإنها لحرية منتزعة من جوف العتمة، يصنعها الشاعر بألم وإصرار مكبّل في أقبية القهر والليل، مثله مثل الفجر، كان يرقب الجمال عبر نفق يرنو إلى ما بعده، ويسعى إلى الحرية بأسلوب القوّة، إذ لم ينلها إلا بعد أن كتم أنفاس الليل وأقبية القهر!!! قصيدة صغيرة، بوابة مشرّعة بوعي لمجموعة شعرية كاملة، وعلى بحرٍ مخلّعٍ، تفعيلاته غير مكتملة، كثر فيها الخبن والطيّ، دلالة على عدم الاتزان الفعلي بعد تحرير الفجر عنوة. يتراءى للمتلقي أنّ الجمال منثور على جنبات القصائد المنسوجة على بحور عدّة: صافية ومزدوجة .. لكنه يصطدم أثناء معانقة الحرف والنغمة، بظواهر شعرية أو بالأحرى عيوب شعرية، كالتدوير والتضمين والسناد، وزحافات وعلل كثيرة (على مستوى العروض)، لم تُنْقِصْ من جمالية القصائد، لكنها أشعرت القارئ بأن الجمال لن يكتمل أبدا مهما حاول الشاعر استقطاب القارئ إليه من خلال معجم الطبيعة المكثف، حيث ذهب إلى التغنّي بفراشة راقه منظرها، كما تغنّى –باسترسالٍ- بالورد والموسيقى وكافة الأشياء الجميلة، لكن الغصّة تبقى قائمة، فنتلمسها بوضوح من خلال خماسية: «تقاسيم حوارية» حيث يُكثِر من التساؤلات لعلّ الفرحة والجمال يكوّنان إجابة تفاجئه، لكن هيهات!!

وفي «بياض الياسمين» يحدث الأمر ذاته لكن بالعكس، فالسوداوية تقوده على مستوى الأمل إلى الانفراج حيث يقول في ختام القصيدة:

« ../..

تنهض من جديد

تخرج من تحت عباءة العقارب،

تركل ريحا عاتية

ترنو لفجر قادم

مثل بياض الياسمين»

الانفراج لم يكن إلاّ على مستوى الأمل، والاستبشار، يعني على مستوى الخيال لا الحقيقة.

هناك ما يؤرق شاعرنا المتفائل جدا، فيلجأ إلى الرؤى التشاؤمية، وما تلبث روحه الخضراء أن تستدرك المشهدين» الحياتي والنفسي، فيقْلِب كفّة الحزن إلى كفّة الفرح المشرَّب بلون الورد!! وعلى سبيل المثال: قصيدة: «ليس لي».

على سبيل المنهج الاجتماعي، أجد نفسي مطلة من سطور القصيدة على حياة الشاعر، فأضع إصبعي على مواطنَ تناصيّة يستحضر بها أعلاما من عمق التاريخ، لينبذ التكنولوجيا، من حيث سلبياتها، ومن حيث الأقطابُ التي تتناحر وتغتال الأصالة، وتبيح النخاسة المقننة، من هنا، من توظيف التراث الذي يلم به إلماما كاملا ومن الخرافة والأسطورة وجهيزة والملك الضليل، وعنترة، والهدهد، والنعش المحمول على أكتاف الأدعياء، تتجلى أفكار الشاعر وحنقته على منطق الريح الزنيم في قصيدة «منطق الريح» فيكشف عن الجديد بالقديم، وعن أصالة الموروث بخيبة البديل للوارث!! مستبشرا بفجر قادم جديد. ذاك هو دأب الشاعر في التسلسل من أجل اكتمال الجمال في خطابه الشعري. ومثل «منطق الريح»، «فرح البيلسان» الذي بدايته ومتنه ألم واعتراض وأمر بالانتفاض، ونهايته فرح للبيلسان.. بيد أن التقنية اختلفت ما بين القصيدتين، فالأولى يحمل عنوانها المحتوى الحقيقي للنص، فيما يحمل النص الثاني الأمل المنشود في ختام النّصز وتلك استراتيجية يلجأ إليها النّاصّ في الحالتين من أجل الجذب، كنوع من أنواع بطاقات استدراج القارئ.

وعلى سبيل الجمال، والروح المدركة لماهية الحياة والوجود، يتسلسل في «خريف العمر» ويتدرج بالوصف الأنيق الذي ينبثق من روح لم تغادر ربيع العمر، فلا ترى الحياة إلا بمنظور جميل وكأنِّي به يجسد أبيات إيليا أبي ماضي:

«أيّهذا الشاكي وما بك داء

كُن جميلا ترَ الوجود جميلا.»

تترواح الأساليب في النصوص ما بين مباشرة وغير مباشرة، للفت انتباه القارئ الذي يسترخي عند الوصلات الحوارية، ويستحضر مسرحا ذهنيا بشخصيات مفترضة عبر استخدام أفعال القول وأفعال السؤال، وهو أسلوب يوحي بالحقيقة والصدق، يجعل القارئ يسير وفق طريق حروف قصدها الشاعر ورسم نهايتها موجها المتلقي إليها، تلك هي حيلة المرسل لإثراء نصوصه والسيطرة بها على قارئه كما هو الحال في «تقاسيم حوارية» وفي «نقش ليلكي الظلال على سور قديم» وغيرهما من نصوص المجموعة ..

ويجدر التطرق إلى آخر قصيدة في الديوان، وهي ليست قصيدة الغلاف «وا حرّ قلبي» هنا في الختام يتحسر الشاعر على أمته التي عانقت نير العبودية، وإن كان ترتيبا عشوائيا أو مقصودا، فإن القراءة واحدة: الحرية التي شرع لها الباب، مغلفة باسم الحرية، في باطنها عبودية تجلت في ختام المؤلَّف، وظاهرها فجر يعانقها .. من البداية لم يكن هناك تناقض، إنما هي رؤيا الشاعر التي تعشق الحرية لكن هيهات .. فكانت بالتالي الخاتمة وهي الحقيقة الأساسية في الكتاب: وا حرّ قلبه!!

أراد الشاعر التمويه بإخفاء نص الخاتمة عن طريق ما يسمى بـ»المناصّة» وهي النوع الثالث من عتبات النص، كان العنوان البوابة عبارة عن نداء لفجر الحرية، وكان الغلاف الخلفي، ربيعَ عمرٍ تغنى به في»خريف العمر» من أجل تحقيق الجمال الذي يسعى إليه شاعر الورد والجمال.

وفي الختام قدم لنا الشاعر الدكتور أنور الشعر كتابا متسقا من حيث المواضيع ومن حيث الرؤى التفاؤلية والتشاؤمية على حدّ السواء، فكان الوطن (نقش كنعاني، القدس، أيقونة مؤابية «تيريز هلسا» عهد التميمي ...) وكان الحب، وكانت الثورة، وكان الألم والأسى .. كتاب متسق يدعو للانسجام معه في كل حروفه.

 

 

المصدر: الدستور 

24 Oct, 2020 11:19:18 AM
0

لمشاركة الخبر