حدث في الذاكرة.. عماد أبو صالح تفضحه الكتابة ويتواصل بالقصيدة مع الآخرين
حدث في الذاكرة.. عماد أبو صالح تفضحه الكتابة ويتواصل بالقصيدة مع الآخرين
في هذه الزاوية من "حدث في الذاكرة" تفتح الجزيرة نت مساحة لكاتبات وكتاب لكي يتحدثوا عن كيفية تحولهم إلى شعراء أو روائيين أو قصاص ومسرحيين ومترجمين أو حتى ناشرين، بخلاف توقعات الأهل أو الأصدقاء.
في الوقت ذاته، تعتبر هذه الزاوية نافذة للقارئ والمتابع لكي يتعرف على جزء حميمي وربما سري لمبدعين مختلفين في طرق وأساليب التفكير والحياة والكتابة، وضيف اليوم شاعر يتجنب الشهرة لكن تفضحه الكلمات وتكسر عليه عزلته.
وبقدر ما احتفى الوسط الثقافي العربي بنيل الشاعر المصري عماد أبو صالح جائزة سركون بولص للشعر بدورتها الثالثة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، احتفى أبناء قرية "كفر دملاش" بفوز ابن قريتهم التي هجرها منذ 30 عاما، ليعيش في القاهرة، إذ لربما تكون العاصمة بكل ضجيجها مكانا أنسب للعزلة من قرية محدودة السكان، لا يمكن أن تكبح جماح الأهالي فيها من التهليل فرحا بابن قريتهم الذي كانوا بالكاد يعرفون أنه شاعر.
الآن، وبعد أن تصدرت أخبار فوزه الصحف ومواقع التواصل، صار البيت المحاذي للمدرسة الابتدائية في دملاش، قبلة المهنئين والزوار، وهو سبب آخر يدعو أبو صالح لتأجيل زيارة القرية.
الهروب من الشهرة
يوغل في الابتعاد عن أيٍّ من أسباب الشهرة. اقتصرت مهمة الشعر لديه على الإحساس والتأمل والكتابة، أما مسائل التسويق، فيعلم الجميع أنه أبعد ما يكون عنها. هل يُخفَى أمرٌ في قرية؟ نعم، تمكّن أبو صالح من كتمان الأمر حتى علموا عنه صدفة، ألم يردّد دائما أن الكتابة فضحٌ؟
من تلك القرية خرجت أشعار أبو صالح، ريفيّة الإحساس، عفويّة، خجولة، سلسة. تغذّيها الأمور الحياتية اليومية البسيطة ما يجعل القارئ يستدل على قصيدته بسهولة، عبر أوزات أمه ودجاجاتها وطبق الفاصوليا، وعبر مشرّدي الليل من البشر والكلاب، وعبر حكايا اليوم والأمس.
لا بأس لديه أن يُخرج قصيدته من المطبخ.. في "يدك" من ديوان "جمال كافر" يقول "أحب يدكِ، صديقة الأواني والأكواب والملاعق، الناعمة، من دهان السمن في الطاسات، الدافئة، من لسعات الطواجن.
وفي قصيدة "المحظوظ" من ديوانه "أمور منتهية أصلا" نقرأ "أنظر للبنت الجميلة وأقول: من يأمن الزيت عند الطهو؟" ويختم قصيدته بما نعتبره نهجا في بنائه للنص الشعري.. "هل ضروري للشاعر -يا إخواني- أن يعرف معنى الهيرمونطيقا؟!. هكذا، ببساطة الفلّاح وحسّه الفكاهي، يقرّبنا أبو صالح للشاعر فيه، إنه ذلك الذي لا تهمه "الهيرمونطيقا" ولا يأتي على ذكرها إلا ساخرا. سخرية تكتمل باستخدامه تعابير عفوية لا يصدرها شخص يتعامل بالهيرونطيقا، تعابير مثل "أش" (اصمت) و"آهاهاها أههها"، فتتحول القصيدة لوهلة إلى مسرحية.
أما المرأة فظهورها مختلف ومنوع في سائر دواوينه، فمرة تكون أمه وأخرى جارته أو ببساطة هي امرأة في خياله. في أحيان كثيرة هي عادية، من اللاتي يصادفهن كل يوم، لا تشي قصائده بتفوق جمالهن. أحيانا لا نعرف كيف تبدو ملامحهن، ليسخر ضمنيا من مقاييس الجمال الرائجة اليوم، كحال قصائده في السخرية من الموت وأسبابه وتداعياته الهزلية في الحياة.. سخرية تتقافز بخفة بين قصائده.. "سأنتحر يعني سأنتحر، فقط امسكوا أطراف ملاءة وقِفوا قريباً، ربما أغيّر رأيي عند الطابق السابع".
شعر وسرد ومسرح ونقد
الخط السردي واضح في شعر أبو صالح، فهو يجعل من الحكايا قصيدة أو من القصيدة حكاية.. وهي حكاية الإنسان العادي، صحيح أن بعضها يبدو متعلّقا بالبيئة المصرية، لا سيما القروية، لكنها في الحقيقة حكاية البشر كلهم. فـ "زينب" هي علاقة ابن وأم، وما دجاجاتها إلا عنصر ربط في تلك العلاقة. ونرصد في القصائد المشاعر الخفية في النفس الإنسانية: الغيرة والحسد والحب والحقد، كلها مشاعر تتشاركها البشرية ونختلف في التعبير عنها.
اعلان
بيد أن ما يميز شعر أبو صالح تحطيمه للصورة التي يكون عليها الشعر، سواء من خلال الصور التي استجلبها من أبسط الأشياء حوله، وحتى استخدامه مفردات ربما يتردد شاعر آخر في استخدامها، فاصوليا وتورتة وبنبون وطشت الغسيل، على سبيل المثال.
إنه يقول الأشياء كما تقال، دونما تحوير أو تنطع، ويعبّر عن فكرته هذه في قصيدة "عيناك" من "جمال كافر".. "كلام مضحك جداً، هذا الذي يقوله الشعراء في العيون. لو كانتا طبقي عسل سيعيش الذباب فيهما. لو نافذتان من الليل، سترشحان دموع الأطفال، المرعوبين من الأشباح، في الظلام. لو بحيرتان زرقاوان، ستعوم فيهما جثث الغرقى، ويفقؤهما الصيادون بصنانيرهم. لو شجيرتان خضراوان، سيتعشى بهما خروف صغير. هكذا يمكن لأي شاعر مبتدئ -اليوم- مسخرة هذه الرومانسية الزاعقة…".
قصيدة ساخرة كعادة كثير من قصائده. يقول أبو صالح لنا كل شيء في شعره، ربما لأجل هذا يظل مصرّا على عزلته، القصيدة وسيلة تواصله مع الآخرين.
ثورةٌ على الثورة
كل الثورات التي أقامها الشاعر في الكتابة، وطريقته في التعامل مع الوسط الثقافي والإعلامي، يتجنبهما قدر الممكن، والامتناع عن النشر في دور النشر، والاكتفاء بطبع عدد محدود من النسخ على نفقته الخاصة، هي ثورات صامتة. الثورة الأكبر كانت الأسلوب الكتابي بحد ذاته والذي جعله صوتا منفردا غير مألوف.
في ديوانه "كان نائما حين قامت الثورة" الذي يبدو أنه يريد من خلاله التنكر من أي بطولة، نلمس تمرّدا رافق البشرية منذ بدء الخليقة، من خلال صفعة وجّهها الشاعر -كما تقول القصيدة- لأخيه، ليستنتج أن في كل عائلة مشروع قابيل وهابيل.
يتبعها بقصيدة يمدح فيها الخطأ، تقول خاتمتها.. "تحية خاصة لك أنت يا يهوذا، يا إمام الخطّائين، يا خالداً في اللعنة، لولاك ما كان مجد المسيح".
وهو تمرّد غير متبوع بتجديف، اتخذه بعض الشعراء المعاصرين "موضة" بذريعة كسر التابو، غير معوّلين على قوة النص الشعري بقدر تعويلهم على مهاجمة عقائد الآخرين وإثارتهم.
يتحدث في قصائده عن الله كما يراه القرويون، المستلقون في حقولهم مقابل السماء، إله سهل بعيد عن التعقيد، خالق المعجزات، حتى إنه من الممكن بدعاء في قصيدة، أن يغير سنة الكون.. " شيئاً فشيئاً نفهم أن الناس صعدوا، ليحاسبهم الله في السماء، أنا وأنت – يا حبيبتي- وحيدان هنا على الأرض. لابد أن الملائكة ستبتسم لنا من الأعالي وتقول: يا رب، امنح البشرية فرصة ثانية".
المصدر : الجزيرة