طلعت رضوان يكتب عن «كل الشهور يوليو».. التأريخ بلغة فن الرواية
طلعت رضوان يكتب عن «كل الشهور يوليو».. التأريخ بلغة فن الرواية
أعتقد أنّ الروايات التى أصدرها المبدع الكبير إبراهيم عيسى، التى تناول فيها الأحداث التاريخية، بواقعها الحقيقى وزمنها وشخصياتها، جعلتنى أطلق عليه صفة المؤرخ (بلغة فن الرواية) كما فى رواية (دم الحسين) و(رحلة الدم) و(حروب الرحماء) وهى الجزء الثانى من سلسلة (القتلة الأوائل) وقد تأكــّـد ما أطلقته عليه، بعد روايته الأخيرة (كل الشهور يوليو) الصادرة عن دار نشر الكرمة عام 2020.
...
ونظرًا لأنّ الرواية تتناول أحداث (حركة الجيش) فى يوليو1952، وبداية سيطرة الضباط على حكم مصر، لذلك كان المبدع موفقــًـا عندما بدأ الرواية، بشخصية الضابط (يوسف صـدّيق) الذى كان السبب فى نجاح الحركة، عندما قام بدوره قبل الموعد المُـتفق عليه مع زملائه بساعة، وأنّ هذه الساعة لم تكن سبب نجاح الحركة (فقط) وإنما كانت السبب فى إنقاذ حياة (كل) الضباط المشتركين فى الانقلاب على حكم الملك فاروق، وعلى الاحتلال البريطانى، وبينما كان المتوّقع أو المنتظر أنْ تكون له (مكانة لائقة) داخل (هيئة المجلس السياسى) الذى شكــّـله عبدالناصر، أو داخل (هيئة قياد الحركة) أو ما أطلقوا عليه (مجلس القيادة) ومع ذلك فإنّ مصيره وجزاءه، وبالأدق كانت مكافأته إهماله، لدرجة السخرية منه، خاصة من صلاح سالم وشقيقه جمال سالم، وما قاله الأول عن يوسف صديق الذى كان ضمن أحد التنظيمات الشيوعية، ولو كان تنظيمهم هو الذى حكم مصر بقيادة يوسف صديق ((فيكفى ستة عمال فقط ويقلبون علينا البلد)) (ص438) وبالرغم من هذه السخرية فإنّ عبدالحكيم عامر قال لزملائه: صحيح أنّ يوسف صديق لم يكن معنا منذ اليوم الأول، وانضـمّ متأخرًا، لكن ما فعله ليلة الانقلاب ((أنقذ رقابنا كلنا، وهوسبب ما نحن فيه الآن)) (ص382)
والمبدع يترك للقارىء الكشف عن التناقض فى كلام عامر، فكيف يكون صديق (قد) انضـمّ (متأخرًا) فى حين أنه كان ضمن الضباط الذين خططوا للانقلاب؟
وعن غدرعبد الناصربزملائه الضباط ذكرمحمد نجيب فى مذكراته (كنتُ رئيســًـا لمصر) أنّ عبدالناصر دأب على تحذيره من يوسف صديق، وكان يقول لى ((خذ حذرك فيوسف صديق شيوعى كبير)) ولذلك كتب محمد نجيب فى مذكراته: ((لقد طرنا الملك وأصبحنا 13 ملكــًـا)) وعن غدر عبدالناصر بزملائه وصل لدرجة التعذيب فى السجون، مثلما حدث مع الضابط (حسنى الدمنهورى) بسبب توجهاته الليبرالية، ومطالبته بالعودة إلى ثكنات الجيش، وترك الحكم للمدنيين، فصدر الحكم عليه من (مجلس القيادة) بإعدامه ثــمّ تخفيف الحكم ليكون السجن المؤبد، وبعد فترة تم تخفيف الحكم ليكون السجن عشرسنوات، ولذلك عندما كتب يوسف صديق مذكراته كانت مليئة بالمرارة، لما حدث له ولزوجته من مآسى. وقد التقط المبدع مأساته فجعله يخاطب نفسه فى جلسة من جلساته مع زملائه، فقال فى مونولوج غاية فى الأهمية (أنحن أذيال لأمريكا؟ الرئيس الأمريكى يرفض تعيين رئيس حكومة، فنخضع ونستسلم) وأراد (صديق) أن ينفجرفى زملائه، فكتم غضبه واستمر فى مناجاته لنفسه بأن أضاف: لقد احتاجتْ بريطانيا (ذات المليون جندى فى مصر) يوم 4 فبراير 1942 إلى تحريك دباباتها وقواتها وحاصرت قصرعابدين، وهـدّدت الملك كى يأتى بمصطفى النحاس (زعيم الأمة الحقيقى) رئيســًـا للحكومة، فلما خضع؛ بتنا نلعن بريطانيا والنحاس والملك، أما الآن -بعد نجاح حركتنا- وبمجرد كلمة من السفيرالأمريكى، ومن غير أن تكون له قاعدة عسكرية بها ثمانون ألف جندى فى قناة السويس، ولا دبابات تحاصرمبنى مجلس القيادة، بل مجرد (كلمة همس بها فى أذن سكرتيره ليقولها لسكرتيرعبدالناصر، فنــُـنفذها راضخين) (ص514، 515).
ولعلّ هذا المونولوج الذى (فضفض) به يوسف صديق لنفسه، أنْ يدعونى إلى ما ذكره المبدع عن دور أمريكا فى روايته، المـُدعمة بالحقائق، والمذكورة فى المراجع التى اعتمد عليها، وذكرها فى التمهيد لروايته.. ومن ذلك ما جاء فى أكثر من مصدرعن أن الملك (قد فهم وأيقن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن الرهان صارعلى الأمريكان، الذين بدأوا قضم نفوذ بريطانيا فى امبراطوريتها (بهدوء ودأب وثعلبة) خاصة بعد أنْ تضاعف عدد الدبوماسيين فى السفارة الأمريكية، وتأكد معظمهم من الدورالمقبل الذى يستعد له بعض الضباط بالجيش المصرى، والإطاحة بالملك فاروق، وهؤلاء الضباط هم الذين شكلوا الهيئة التى أسـستها المخابرات الأمريكية، ولهذا جعلهم وسيطا ((يضغط أوينصح بريطانيا بعقد اتفاقية تــُـنهى وجودهم فى مصروالسودان، مقابل أنْ تكون الصداقة الأمريكية/ المصرية، أمتن وأوثق)) (ص145، 146)
وعن علاقة بعض الصحفيين بالسفارة الأمريكية (قبل وبعد يوليو52) أمثال محمد حسنين هيكل ومصطفى أمين، أن الأخيرسمع وليم ليكلاند (مواطن أمريكى يعمل بالسفارة الأمريكية بالقاهرة) يقول إن (جيفرسون كافرى) السفير الأمريكى حريص تماما على شيئين طوال معيشته فى القاهرة: الصلاة والويسكى، ولذلك فإن ليكلاند بجانب عمله كملحق بالسفارة، فإنه -وهذا هو الأهم- ضابط بالمخابرات الأمريكية، ولهذا يعتبر أنه السفيرالحقيقى، ومن خلال علاقة مصطفى أمين به علم منه أن السفير البريطانى فى واشنطن، قال لوزير خارجيته أن ثورة (شيوعية) قامت فى مصر، وأن بريطانيا لا تعرف كيف تتصرف؟ هل تتدخل وتنقذ الملك؟ أم ترفع يدها، وفى الحواربين مصطفى أمين وليكلاند قال الأخير: لقد كتبتُ برقية اعتمدها السفيرالأمريكى، ووزيرالخارجية الأمريكية، وموجهة لبريطانيا ونصها ((أمريكا تحذركم من التدخل، ومن المساس بالضباط)).
تداعتْ ذكريات مصطفى أمين، وهوفى زنزانته بعد القبض عليه، فتمنى أنْ ينقل لجمال عبدالناصر تقرير السفارة الأمريكية، كى يطمئن أن الإنجليز لن يتدخلوا.. إلخ (ص190، 191).
ومن بين الحقائق المتفق عليها بين (كل) المؤرخين أن السفيرالأمريكى فى القاهرة كان ((فى وداع الملك فاروق)) (ص247).
وأنّ فاروق تذكر مساندة الأمريكان له، وأنهم سيجعلون الضباط يسمحون له بمغادرة مصرإلى أى مكان يختاره، معززًا مكرمًا، مع إطلاق 21 طلقة فى وداعه (من ص276- 277).
وأن السفيرالأمريكى ردد كثيرًا أمام سفراء الدول رأيه عن ضباط يوليو52 المصريين أنهم أولادى My boys وعندنا يجتمع معهم فى السفارة الأمريكية، كان يقول لهم: أنا سعيد جدًا بكم يا أولادى (ص395).
وصل تدخل الأمريكان لدرجة أن (مجلس قيادة الجيش) عندما فكروا -مجرد تفكير- فى تعيين السنهورى باشا، ليرأس الحكومة، فإنّ الأمريكان تدخلوا على الفور، ومنعوا الضباط من اتخاذ هذا القرار، وكانت حجتهم، أن السنهورى اشترك فى التوقيع على بيان (نداء استكهولم للسلام) والتنديد بالانتشارالنووى. وفى حوار بين عبدالناصر وحسن التهامى قال الأخير إنه رتـب مع أربعة ضباط من المخابرات الأمريكية، ليقوموا بعمل ((تدريبات لجيشنا فى المخابرات الحربية المصرية)) (ص521، 522).
ولتأكيد دورأمريكا فى فرض (قانون الإصلاح الزراعى) فإن إسماعيل شيرين (ابن عم الملك فؤاد وزوج الأميرة فوزية أخت الملك فاروق، بعد طلاقها من شاه إيران) إسماعيل شيرين هو الذى نصح فاروق بالاستعانة بمصطفى النحاس، لكى يتجنب مشاكله مع الضبط (منذ انتخابات نادى الضباط) ولكن الملك لم يهتم بتحذير زوج أخته، وكانت النتيجة أن أمريكا حلـتْ محل بريطانيا، وقال شيرين لزوجته وهو يقرأ الصحف الأمريكية: الأمريكان يهللون فى صحفهم لقانون تحديد الملكية، إنهم حمير يتخيلون أن هذا القانون سينقذ مصرمن الشيوعية، وفاجأها بمعلومة أغضبتها حيث قال: هل تعرفين أن عبدالناصر عيـن إخوانيا حارسا على أموال فاروق؟ (ص538، 539)
ولعلّ هذا المحورأنْ ينقلنا إلى محوردورالعلاقة (الوطيدة والملتبسة) بين الإخوان المسلمين وعبدالناصر، فبالرغم من علاقة ناصربهم منذ أن أقسم على المبايعة فى حجرة المرشد المظلمة، فإن هذا لم يمنع حرق الإخوان لكنيسة فى السويس، وأن الشيخ فرغلى (قائد الإخوان فى السويس) هو الذى حرض أتباعه على حرق الكنيسة، وذلك فى قمة نضال الفدائيين المصريين، ضد قوات الاحتلال، وقال الشيخ فرغلى إن النحاس باشا يجنى ثمار (حماقته) بإلغاء معاهدة 1936 مع الإنجليز. وفى زيارة قام بها عبدالناصر ومحمد نجيب (بعد يوليو52) لمقر مرشد الإخوان من أجل تصفية بعض الخلافات، والتنسيق للتعاون، فإن نجيب سأل ناصر: لماذا أخبرت الإخوان بموعد الانقلاب؟ فعجز ناصرعلى الرد – وفقًا لما جاء بالرواية (ص160).
ومن الشائع والمعروف فى كل الكتب التى أرخت لحركة يوليو52 أن الطيار (عبدالمنعم عبدالرؤوف) يعتبر أحد مؤسسى حركة ضباط يوليو، بالرغم من عضويته فى جماعة الإخوان، وكانت معه رسالة بخط (عبدالرحمن السندى) قائد التنظيم الخاص للإخوان، وهوالذى أبلغ عبدالرؤوف بتوجه كتائب من الجيش لحصار قصرالملك، وأن عبدالناصر اهتم جدًا بشخصة السندى، وبالتالى وثق فيه، هو وعبدالرؤوف، ولذلك قال للأخير ((تحت قيادتك مجموعة مدافع ميكانيكة)) بهدف حصارقصرالملك (ص233، 234).
وعندما تضايق عبدالناصرمن تصرفات زوجة عبدالمنعم أمين (رئيس المحكمة العسكرية التى أصدرتْ الحكم بإعدام العامليْن مصطفى خميس ومحمد البقرى، والسجن بالأشغال الشاقة لعدد 37 عاملا)، عبدالمنعم أمين لم يستطع كبح جماح لسان زوجته فى الحفلات حول تصرفات بعض الضباط، لذلك ذهب عبدالناصر لمقابلة عبدالرحمن السندى وقال له: أنا قلت ألجأ إليك.. وفى تداعيته مع نفسه قال السندى: أنا صاحب الاسم الرنان فى آذان الإخوان، رئيس التنظيم الخاص، الذى أرجف وأخاف وأرعب كثيرين، ها هو عبدالناصر يجلس أمامى فى غرفة الصالون فى شقته، ومنذ سنوات جلس عبدالناصر أمامى فى بيت غريب فى غرفة أغرب، وأقسم الولاء للإخوان، كنت أنا السندى الذى تلقى البيعة فى عتمة الغرفة. وفى ذاك اليوم البعيد علمت إن عبدالناصر لم يحبنى، وقال إنه رأى وسمع غلظتى وقسوتى، ومع ذلك أعجب بى، كما أعجب حسن البنا بعبدالناصر، وقال البنا عن ناصر إنه (مبهر فى التنظيم) والأكثر إبهارًا هو السندى، فقد بنى تنظيما سريا داخل تنظيم علنى، ويختار رجاله الممسوسين بالجهاد لصالح الجماعة، وولاؤهم أعمى وأصم وأبكم لقائدهم السندى (وحده) ويخفيهم حتى عن (مرشدهم الأعلى) وفى نفس الوقت يخيفه بهم، (فى هذا المشهد وهذا المونولوج) قررعبدالناصر أن ينقل تلك التجربة، ويطبقها على ضباطه، بأنْ ينشئ (تنظيمه السرى الخاص) ويجعل الجميع تحت سيطرته وطوع بنانه، وكما ركب البنا والسندى جماعة الإخوان، فإن ناصر سيركب (جماعة الضباط) ويسوقها لصالحه، يضرب بها هذا، ويهدد بها ذاك، ويستعين على الوفد، ويعتمد على جماعته فى الشوارع والجوامع والجامعات، ويصنع منها قبضات وصفعات، يردع بها كل خصم، ويروّع (باسم الجيش) جمهورًا يهلل ويكبر لما يفعل – حسنــًـا- فما الثمن؟. (وفقا لمناجاة السندي لنفسه في نص الرواية)
ويسترسل السندى فى مناجاته لنفسه مثل كل المونولوجات التى جاءتْ فى الأدب الأوروبى العظيم، وخاصة عند شكسبير فى مناجات الشخصيات الشريرة، وكذلك عند تشارلز ديكنز، وخاصة فى روايته البديعة (الصغيرة دوريت) وكذلك فعل المبدع إبراهيم عيسى، عندما أدار مونولوج السفاح عبدالرحمن السندى الذى همس لنفسه: هل يريد عبدالناصر جماعة الإخوان، ولا يرى مفتاحها مع الهضيبى ؟ ويسعى عند مبايعة القديم لبيعة جديدة، لكنها هذه المرة بيعة (مشروطة) أوبيعة (مقايضة) يقول عبدالناصر: امشوا خلفى، أو تحركوا معى ((كى لا تتحرّكوا) وأنا أمكــّـنكم من (مفاصل الدولة) ويسترسل السندى فى مونولوجه فيقول: إن عبدالناصر يعتبر نفسه مثل نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) الذى قال لأتباعه: ((اتبعونى أمكنكم من خزائن القياصرة والملوك، وأجعلكم أسياد العالم))، وفقا لما جاء بالرواية.
واستمر السندى فى مونولوجه لنفسه فقال: يتخيل عبدالناصر أنه يتعامل مع زملائه السذج فى (مجلس القيادة) أو أنه يتفاوض مع زميله اللدود (زميلنا السابق الإخوانى الكبير عبدالمنعم عبدالرؤوف) طيب: رؤوف رجل غشيم وبهيم أحيانــًـا.. هوالطين ومنه السمع والطاعة، لكن أنا – وهنا يتصاعد العزف المونولوجى – لست غريرا يا فتى الإخوان الضال (يقصد عبدالناصر) كى تغرينى بما تنوى على فعله أيها الثعلب، ومتى تخلى الثعلب عن دجاج خظيرته!! أتريد أنْ أتعاون معك كى تأخذنى لحمــًـا وترمينى عضمــًـا؟! ويصل مونولوجه قمته عندما خاطب عبدالناصر(كنوع من الفضفضة لنفسه) أنا السندى يا ولد.. فلا تظن أن حراسك الذين يقفون على باب شقتك، وفى مدخل العمارة، وعند أول الشارع، وتلك السيارة الجيب المركونة عند الرصيف، سوف يجعلون (بروجك مشيدة) عموما سأتركك تظن أنك تلعب بى، لأننى أحب لعبتك (كأنما يود لو همس فى أذن عبدالناصر: أنا وأنت من فصيلة واحدة، بل ومن نوعية واحدة) وأنك جئتَ بعد أن علمت أن الإخوان خانونى، وأنت تريد التحالف معهم، وتريد أوتتمنى أنْ أستعيد (قيادتى) وأنت تسعد وتبتهج بانقلابك (من ص591- 595)، حسبما جاء بنص الرواية.
بعد هذا المونولوج الممتع (على المستوى الإبداعى) أضاف المبدع: كان السندى قد وصل إلى (خلاصة الخلاصة من إخلاصه لحسن البنا) وهو يخرج من باب شقة عبدالناصر، وحـدّث نفسه- كما ذكرمعظم الذين أرّخوا لحياته- وقال: لو أن لهذه الجماعة أنْ تعيش، فلتعش بى ومعى، ولوقرّرتْ إبعادى وإقصائى، فلتمتْ الجماعة حتى لو متُ أنا معها.. ويتعاظم إحساسه بتضخمه الذاتى فأضاف: إن الإخوان بغيرالسندى، إخوان (بغير إخوانيتها) فأنا جذرالجماعة وبذرها وزارعها وحاصدها، ولن يحدث معى ما حدث مع السكرى (نائب حسن البنا الذى أسـّـس وبنى، فدفنه البنا تحت بنائه) وأضاف السندى فى مونولوجه لنفسه: لست أنا الذى تجعل منى مدفونا فى قبرك، بواسطة (هضيبك) تلميذك الخائب المرشد الجديد ((فحمــًـا لبخار عجلاتك فوق عظمى أبدًا)) (ص596).
هنا بالذات يتأكد لدي ولدى القارئ الحصيف العقلانى والموضوعى، أن المبدع استخلص واستخرج (عقلية ونفسية هذا الإرهابى- أي السندي- الذى تفوق على أستاذه البنا، الذى يصح اعتباره (القائد والمرشد العام لجميع الإرهابيين على مستوى العالم) وبالرغم من ذلك فإن تلميذه تفوق عليه، ولم يكن بمستطاع أى مبدع (وهو يعيد صياغة الأحداث والشخصيات بلغة فن الرواية- كما فعل إبراهيم عيسى) إلاّ بعد قراءته وهضمه واستيعابه لعشرات – إن لم تكن مئات الكتب التى أرخت لمسيرة الإخوان المسلمين، وبصفة خاصة لأشهر رموز جماعة الإخوان، مثل السندى)
ويتأكد ذلك من المعلومة الموثقة، عن كلام عبدالناصر الذى قال: أنت تعرف يا عبدالرحمن (عبدالرؤوف) ما فعله المرشد معى، ونحن نشكل الحكومة، بعدما رشح لى الشيخ الباقورى وأحمد حسنى، وزيرين من الإخوان ضمن الحكومة، ورجع فى كلامه. وقال لك: بلاش الاتنين دول، وجاب بدلهم منير الدلة وحسن عشماوى، هل هذا كلام؟ بعدما بلغت وأخبرت الاثنين واتقابلنا ووافقنا ونزلت الأسماء (فى الصحف) يقوم يتراجع؟! كان المفروض يبلغنى ويجنبنى الإحراج والإهانة. أنا كنت عايزالإخوان يعرفوا أننا ( إيد واحده ) فى حكم البلد وأخذنا من الأحزاب القديمة واحد (بس) من الحزب الوطنى، وكان لابد يبقى معاه واحد أو اتنين من الإخوان، لكن المرشد ((خذلنى)) وكان الشيخ الباقورى عظيما عندما استقال من مكتب الإرشاد، ليبقى وزيرًا معى، وأيضا أحمد حسنى، وإنت عارف معنى وأهمية أنْ نجعل وزير العدل إخوانيــًـا (ص596).
وتلك المعلومة (باعتراف عبدالناصر) تؤكد حقيقة أن مسيرة ضباط يوليو بدأتْ بترسيخ (منظومة الدولة الدينية) منذ الحرص على مغازلة الإخوان وترضيتهم بتعيين بعضهم فى الحكومة، حتى ولو كان عبدالناصر قد اضطر إلى ذلك بحجة- كما يقول الناصريون- وجود صراع وتنافس بين الإخوان، وبين ضباط يوليو، ومحورالصراع: من يفوزبغنيمة (حكم مصر) أو وفقــًـا للتعبيرالشائع: من الذى سيسبق الآخر؟ أومن سيتغدى بالآخر قبل استعداد غريمه للعشاء به؟
وكانت من بين سخريات عبدالرحمن السندى (بعد أنْ سمع كلام عبدالناصرعن عظمة الباقورى) أنْ تواصل عزفه المونولوجى لنفسه فقال: أى عظمة تلك إلا لو كانت عظمة من (عظام السلطة) التى يركض وراءها الباقورى، حيث إنه بعد أن غدر به الإخوان، وبعد أنْ ذاب وساح (شمع حلمه) بمنصب المرشد، جمع الشمع الذائب وذهب به إلى حكومة الضباط.. واسترسل السندى فى مونولوجه فأضاف: إن الشيخ الباقورى يكره الهضيبى الذى (حطم حلمه) أكثر من مرة، وأكثر مما يحب عبدالناصر الذى وضع له قطعة من (جبنة الحكم فى المصيدة) كما أن المرشد لم يرشحه ممثلا عن الجماعة فى حكومة الضباط، إلا للتخلص من منافسته ومزاحمته على (مقعد المرشد) ولم يتراجع الهضيبى عن ترشيح نفسه، إلا عندما خشى من أن يكون الباقورى ((ورقة على مائدة عبدالناصر)) و((عمامة الجيش الإخوانية)) وكانت إضافة المبدع المهمة- المستقاة من مصادرعديدة- أن السندى كان على حق، فقد عملها الباقورى فعلا، فصار خطيب الحفلات والمؤتمرات والسرادقات والقشلاقات، ولم يبخل بأى آية قرآنية، ولا أى حديث نبوى يسقطه على محمد نجيب وعلى (حركة الضباط المباركة).
وفى نفس الجلسة التخيلية، قام عبدالناصربتناول صينية الشاى من عسكرى المراسلة، الذى يخدم فى شقته، وقـدّم الشاى بنفسه للسندى، الذى تساءل عن سرهذا التواضع وتلك الحفاوة من (طاووس) لايخفى إعجابه بنفسه؟! هل هو عبدالناصر المفاوض؟ أم المضيف؟ قطع عبدالناصرعليه تساؤله عندما قال له: لقد أصدرنا قرارًا بالعفوعن كل المسجونين سياسيـــا أيام الملك، واستثنينا الشيوعيين ولم نعف عنهم، أليس فى هذا دليل يؤكد لك نوايانا ويطمئنك ويطمئن الإخوان (على أننا نسيرفى طريقكم) ؟ تمهل السندى فى الرد وخاطب نفسه قائلا: بل دليل يا أيها البكباشى على أنكم تطلبون (ود الأمريكان) ولذلك فتحتم أبواب الحرية أمام السجناء جميعا عدا الشيوعيين. لقد أحكمتَ أيها البكباشى أقفال زنازين الشيوعيين سعيــًـا لمحبة أمريكا، ورسالة للسفارة الأمريكية بأنكم (على العهد) كما رفضتم السنهورى رئيسا للحكومة لما بلغكم رفض أمريكا له، واتهامه بالشيوعية، حسنا يا عبدالناصر، وقد أحسنت تقدير ذكائى، فأنا فى موقع أستاذك أيها البكباشى.. واستمرّحديثه لنفسه فتساءل: متى يعتقل عبدالناصر المرشد؟ فكل من زارهم عبدالناصرسجنهم؟ والحمد لله أننى زرتُ عبدالناصر، وليس هو من زارنى.. وواصل عبدالناصر حديثه فقال: ورغم كل ما فعلناه فلا يزال الإخوان يلعبون من ورائى فى الجيش، وطبعــًـا أنت تعرف ما يفعله عبدالمنعم عبدالرؤوف، واجتماعات ضباط وصولات الإخوان، ولعبهم مع رشاد مهنا، فهل يتصورالإخوان أن رشاد مهنا أقرب للإخوان منى أنا؟ معقولة هذا السلوك يا سندى؟ وأنا على يقين أن عبدالرؤوف لايتصرف من نفسه، فهوملتزم بقرارات المرشد، كأنها (قرارت قادمة من جبريل) وأضاف عبدالناصر وهو يتحسس موضع جرح السندى، ودس ملحا فقال: أنا أتكلم معك بحرية رغم أنك مسئول التنظيم الخاص، والمفروض أن يدك تطول كل عضوفى الجماعة، وكلامك فوق كلاك المرشد، حسبما جاء بالرواية.
تمهل السندى فى الرد وخاطب نفسه قائلا: يعرف أننى لست كذلك، وأننى فى زاوية الحلبة، واللكمات تضربنى من كل جهة، فهل عبدالناصر يعايرنى؟ أم يستفزنى أم يحرضنى أم كل هذا معا؟ وأنهى حديثه لنفسه بأنْ قال: خلاص فهمت يا بكباشى عبدالناصر ماذا تريد، قلها إذن، لكن عبدالناصر كان يخبئ سهمه الأخير منذ دخل السندى شقته، حيث إن قوته (تتقشر أمام عبدالناصر) ورآه ضعيفا مخذولا يطلب بكبرياء (ضائع) العون، مثل (نمر جريح) يدارى جرحه ((بعشب يابس من غابة محروقة)) وأن الإخوان يتطاحنون مع بعضهم، والسندى غيرمصدق أنه محاصر من نكرات الجماعة، الذين ما كانوا يملكون رفع عيونهم أمامه، فما بالك برؤوسهم، ويتطاولون عليه، وقفزوا على (تنظيمه) ينزعونه منهم وهو ينازعهم. إنّ المرشد الجديد يود أنْ يرث (سيد فايز- مساعد السندى) الذى يريدونه فردًا ضعيفـًـا ضئيلا يتلقى الأوامرمن مسئول (خليته العنقودية) ويطيع (فضيلة مرشده) بينما السندى لن يستسلم.
طوال هذا المونولوج الذى تداعى فى عقل السندى، كان عبدالناصر يتأمل نظرات السندى الكاسرة (تتكسر) فشجعه وقواه بابتسامة ورجاء وقال له: أرجو أن تكون موجودا غدا فى المركزالعام للإخوان المسلمين. فتنبه السندى وسأل بدهشة: لماذا؟ وقبل أن يسمع جواب عبدالناصر، تذكر نفس الرجاء الذى سمعه من عبدالناصر منذ شهر أو أكثر، وكان ليلتها فى بيت السندى، وكان هدف عبدالناصر أنه يتمنى (عقد صفقة) شراء (وده أو جزء من ولائه) ليكون هذا الولاء له ولضباط يوليو، وليس للإخوان. وبعد أنْ استمع السندى لخواطره سمع عبدالناصريقول له: غدًا سيصدر عفوعن المحكوم عليهم من الإخوان فى قضية (قتل المستشار أحمد الخازندار) وقع الخبرفى قلب السندى فأرعشه وأسعده، فهؤلاء المحكوم عليهم بالإعدام هم رجاله، وهوصاحب خطة القتل وقراره، وكأن عبدالناصر حين يفرج عن (قتلة مدانين، ومعترفين، ومتلبسين) إنما يـفرط فى (دم المستشارالمغتال) وفى نفس الوقت يقـدم للسندى ولاءً بالدم.
وبعد أنْ انتهى (شريط التداعى الحر) فى عقل السندى، سمع البكباشى عبدالناصر يضيف: وكذلك صدر قرار بالعفوعن الإخوان المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة فى قضية (قتل محمود باشا النقراشى) رئيس الوزراء الذى حل جماعة الإخوان، عندما سمع السندى هذه الأخبارمن (قائد حركة الجيش) سمع نبضات قلبه (ترقص على نغمات كل تنويعات الموسيقى، سواء التى يعرفها (مثل طبول هز الوسط) أو التى لا يعرفها (مثل السوناتات والسيمفونيات) وسبب البهجة التى أنعشتْ السندى لأنّ قتلة النقراشى لم يمكثوا فى السجن سوى أربع سنوات فقط، ولوكانوا قتلوا بهائم عزبة النقراشى، لمكثوا أكثرمن هذه المدة فى السجن. وفقًا لخواطر السندي التي جاءت بالرواية.
وواصل السندى خواطره أو تداعياته الحرة، كما لوكان أحد أبطال مسرحيات شكسبير الشهيرة مثل ماكبث أوالملك لير، أو إياجو فى مسرحية عطيل، أو أى شخصية شريرة) حيث حدّث السندى نفسه بمزيد من الفرح والبهجة: ها هو عبدالناصر ((يغازل الإخوان غزلا لا يمكن (وصفه بالعفيف) فما العفة فيما يفعله؟ بل هوغزل صريح ومكشوف، وأقرب إلى التغنج، خاصة عندما أضاف: إن العفو سيشمل الإخوان المحكوم عليهم فى (قضية إلقاء قنابل على المدرسة الخديوية) التى راح فيها ضحايا كثير من التلاميذ والمدرسين. وازادت دهشة السندى، والأدق فرحته وبهجته عندما سمع عبدالناصريضيف: هذا عفو خاص، وليس عفوًا عامـًـا للسجناء فى قضايا سياسية يا (أخ) عبدالرحمن، وقتها كاد السندى أن يطلب من عبدالناصرأن يكف عن هذا الاندلاق العاطفى، ولكن عبدالناصر (دلق) عليه بالمزيد حيث أضاف: سيخرج الإخوان من السجن إلى مقر المركز العام للإخوان، وطبعا سيستقبلهم إخوانهم (أبطال يستقبلون أبطالا) فتسارعت دقات قلب السندى بالبهجة والسعادة، ومعها قفزت خواطره بأسلوب التداعى الحر، فحـدث نفسه قائلا بحسرة: من أولى بهذه اللحظة منى أنا عبدالرحمن السندى؟ وأنا قائد المفرج عنهم؟ فمن حقى أن أحصد ((فخراللحظة وبهجتها وفرحتها..وليس الهضيبى الذى كان بعيدًا قصيا غريبا عن الجماعة، يوم قتلوا النقراشى، ويوم صدور الحكم بإعدامهم)). فى هذا المشهد الذى يصلح ليكون مشهدًا ضمن فصول مسرحية (من أمتع المسرحيات العالمية، بلغتها الفنية التى توفرت فيها كل عناصر الدراما) مع مراعاة أن المبدع لم يحقق هذا الإنجاز إلا بعد أن (غاص) وسبح داخل تلك العلاقة المعقدة والملتبسة بين ضباط يوليو، وبين تنظيم الإخوان، وبين محاولات الشد والجذب بين الطرفيْن.
كذلك فإن هذا المشهد تضمن سؤال السندى الذى كان عقله يتأرجح بين الفرح وبين التوجس، وهوما عبر عند السندى فى سؤاله: يا أخ جمال ما الذى سيحدث غدًا فى المركزالعام للإخوان؟ هل خلتْ السجون من الإخوان (فعلا) منذ قامتْ (حركتكم المباركة) وكأنه ودّ لو يضيف: وهل الإفراج عن الإخوان سينهى الصراع بين طرفينا؟ فزاد رد عبدالناصر علي سؤاله بما ضاعف من توجسه حيث قال له: سوف يزوركم كل من أحمد طعيمة وإبراهيم الطحاوى.
تذكر السندى هذين الاسمين، فهما ضابطان كانا فى جماعة الإخوان، وتركا تنظيمنا لكى ينضما إلى تنظيم ضباط يوليو، ولعلّ لهما (مكانة الثعالب الصغيرة) تحت ظلال الكروم، قطع عبدالناصرحبل توارد الخواطر والأفكارفى عقل السندى، بأنْ أضاف- كما لوكان يتعمّـد أسلوب التقطير(نقطة نقطة) حيث قال: وسوف يعرضان على الإخوان عرضــًـا مهمـّـا أريدك أنْ تسمعه. قال السندى: أود أنْ أسمعه، فردّ عبدالناصرعليه: لا. بل تسمع رد الإخوان. ولكى أخرجك من حيرتك، ولأننى أثق بك فإننى أخبرك أننى سأعلن تشكيل (هيئة التحرير) وهى عبارة عن تنظيم جديد يضم كل عناصرالأمة بديلا عن الأحزاب الفاسدة، وعرضى هوأن ينضم الإخوان لهيئة التحرير، وتكون أنت أمينها العام، حسب نص الرواية.
عادت الخواطر والتداعيات من جديد فى عقل السندى، واستمع لخواطره بتلذذ: عبدالناصر يقدم الجزرة للإخوان، ويخبىء وراء ظهره العصا، الإخوان لن يقبلوا تسليم جماعتهم للبكباشى عبدالناصر، ولعبته الجديدة، وعبدالناصر لن يقبل أن يستمر الإخوان وهم يلعبون (وحدهم) لعبتهم القديمة. وفى نهاية هذا المشهد أبدى السندى الموافقة، وحرص على الذهاب غدًا ليرى الإخوان وهم ((يـشعلون فتيل عبدالناصر)) (من ص538- 601)
فى هذه المحاور (ضمن محاور أخرى عديدة) أتمنى الكتابة عنها فى الجزء الثانى من هذه الدراسة، فإنّ المبدع إبراهيم عيسى نجح فى تحقيق (التأريخ بلغة فن الرواية) ووفــّـر على القارىء الرجوع إلى المصادر التى (قد) لا تجذب البعض.
المصدر:بوابة الشروق