منظور ابن خلدون في اكتساب اللغة العربية
منظور ابن خلدون في اكتساب اللغة العربية
مفهوم المَلَكَة:
يرى ابن خلدون أنّ اللغات جميعها مَلكات شبيهة بالصّناعة، أيّ أنّ اللغة تُتعلّم كما تُتعلم صناعة ما، والمَلكَة عنده هي مهارة ثابتة تكتسبُ عن طريق التَعلُّم، سواء تعلَّق الأمر باللغة أو بغيرها من الصنائع.
وقد عرّفها بأنها صفة راسخة يكتسبها الإنسان عن طريق التعلُّم، وتَحدُثُ هذه الملكة عن طريق التكرار والممارسة؛ قال ابن خلدون بشرح معنى المَلَكة: «والملكات لا تحصلُ إلا بتكرار الأفعال؛ لأنّ الفعل يقعُ أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالًا، ومعنى الحال أنّها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون مَلكة أيّ صفة راسخة».
وكانت مَلكة اللغة العربية تُكتسبُ طبيعيّا بالسّماع حين كان المتكلم ينشأ في وسطٍ لُغويّ كله عربيةٍ فصُحى، فلا يحتاج إلى أن يتعلّمها على يدِ مُعلّمٍ، وبهذا فُسِّرَ القول الشائع بأنّ اللغة العريية طبعٌ في العرب. لكن هذه المَلكَة فسدتْ بسبب اختلاط العرب بالعجم، لذلك لم يَعُدْ السماع وسيلة كافية لتعلُّمِ اللغة الفصحى.
فما طرق اكتساب اللغة العربية؟
1. كثرة الحفظ وجودة المحفوظ :
طريقة اكتساب العربية عند ابن خلدون هي؛ حفظ كلام العرب القديم، وجعل القرآن الكريم والحديث الشريف من أوّل ما ينبغي أن يحفظ ابتغاء هذه المَلَكة، ثم يأتي بعد ذلك كلام السلف عامة، ثم كلام فحول العرب.
هكذا؛ فابن خلدون يرى أنّ حفظ كلام العرب الفصيح طريقة فعّالة في اكتساب مَلكة اللغة العربية، ذلك أنّ من حفظ كلام العرب الفصيح كَمَنْ عاش بينهم، فسمع منهم، والمَلَكة التي تنشأ عن حفظ الكلام الفصيح هي نفسها التي تنشأ عن سماع الكلام الفصيح، فإذا كانت وسيلة السماع الطبيعية غير متاحة في الوسط اللغوي بعد فساد اللسان العربي بالعُجمة؛ فإنّ ابن خلدون يحثّ على خَلْق سماع اصطناعي.
ولنوعية المحفوظ وكميّته أثرٌ في امتلاك اللغة، إذ كلما كان المحفوظ جيّدًا كثيرًا كانت الملكة أجود. ونبّه ابن خلدون مرة أخرى إلى أنّ على قدرالمحفوظ كمًا وكيفًا تأتي المَلكَة، وبيّن الفرق بين مَلَكَة من يحفظ أشعار العرب والإسلاميين المتقدمين وبين من يحفظ أشعار المتأخرين منهم. وقد اعترف ابن خلدون نفسه بأنه كان يجد صعوبة في نظمِ الشعر، بسبب كثرة محفوظه من الأشعار العلمية في النحو والفقه والمنطق.
إنّ الحفظ في التراث الثقافي التربوي العربي مسألة ضرورية؛ لِمَا لها من فوائد في تعلُّم اللسان العربي، وفي تعلم الأخلاق والشيم العربية.
2. الفهم :
إنّ الحفظ وحده لا يكفي لامتلاك اللغة العربية، بل لا بُدّ من أمرٍ مهم؛ هو الفهم إذ الفهم هو الذي يُمكِّن الحافظ من استثمار محفوظه؛ إذ لا يُمكن أن يتصرّف المتكلم في محفوظه إذا لم يفهمه. إن الفهم أساس بالنسبة لابن خلدون في حصول المَلَكة اللغوية، وقد تحدّث – ابن خلدون – عن أهميته، ورأى أنّ القصور اللغوي عند أهل المغرب وإفريقيا ناتج عن اقتصارهم على حفظ القرآن الكريم دون سواه من كلام العرب الفصيح.
3. الإستعمال :
هناك أمرٌ ثالث لا بُدّ منه لاكتساب مَلكة اللغة العربية الفصحى، وهو الاستعمال؛ ومعناه أن يستخدم المتعلّم ما حفظ وفهم في أساليبه، ومن طبيعة الحال ليس المقصود هنا أن يستظهر ما حفظ، بل أن ينسج كلامًا على منوال ما حفظ وما فهم.
إنّ الحفظ والفهم غير كافيين لحصول المَلكة اللغوية، فالمتعلم الذي لا يستعمل ما حفظ وفهم لا يملك مَلكة اللغة العربية الفصحى، وعلى هذا فمَلكة اللغة العربية لا تحصل إلا بهذه الأمور الثلاثة مجتمعة ويبقى الاستعمال أهم هذه الأمور.
واضحٌ إذن أن ابن خلدون يدعو إلى استعمال اللغة؛ كيّ يكتسب التكلم الملكة اللغوية، وقد ربط الاستعمال بطرق التعليم، وهنا حثّ على أن يسمح التعليم للمتعلمين بالحديث والمناظرة؛ أيّ أنه يرفض طريقة التلقين والتحفيظ التي تُبقي المتعلم ساكنًا طول حياته التعليمية.
هذه أفكار تربوية حضارية يحق للمرء اليوم أن يعتز بها، وأحْسَبُ أنّها جديرة بالأخذ بها في تدريس اللغة العربية، وإعداد البرامج التعليمية في عصرنا؛ إنّها أفكار ثمينة أخالها قادرة على المساهمة في النهوض باللغة العربية في المدارس والجامعات.
المصدر: الدستور