Skip to main content
غربة الألم.. وألم الغربة

غربة الألم.. وألم الغربة

 

 

د. مهند غازي الزامل

الغربة قد تكون مُمتعة لِعدّة شهور حين تحقق أملك في السفر.. وبدء حياة جديدة طالما حَلِمْتَ بها, حتي تشعر بالوحدة دون الأهل والأصدقاء والأحبة.. تسير حياتك بشكل طبيعي حتى تتذوق الغربة وهنا المنعطف الذي تتغير فيه حياتك.. تغترب مشاعرك وأحساسيك حتى طباعك القديمة تصبح غريبة.. شعورٌ مُضَّطرب لا يَحُسُّه إلا مغترب.. تكره الغربة أشدَّ مِن كُرهِ المظلوم إلي ظالمه.. حتى إذا عُدتَ لبلدك اشتقت لتلك الغربة.

الغربة كلمة طعْمُها مُرّ.. مَرارة الليمون أو أشدّ.. كلمة قاسية وتجربة صَعبة قد عاشها الكثير مِنّا لكن بأشكالٍ مختلفة ولأسباب متعددة، فمِنا مَن وُلِدَ وَوَجَدَ نفسه في بلدٍ قد هاجر إليه الأهل بحْثا عَن فرصة عملٍ أفضل.. ومِنا مَن يَجدُ نفسه مُجبرًا لترك البيت الدافئ الذي نشأ وترعرع به طلبا للعلم لعلّه يضيفُ.. عند عَودته بالشهادة والنجاح... ورُبما هيهات!

وبعضُنا يبحث عن فرصةٍ أفضلَ لتحسينِ مستواه في بلدٍ غيرَ موطنه الأصلي.. ومِنّا مَن يكون في بلده ومَعَ أهله ولكنه يشعر بغربةٍ قاتلة قد حاصرته مِن كلِّ جوانب الحياة.. مِن همومٍ ومشاكلَ وظلمٍ وهَضْم للحقوق وعَدم مَنحِهِ الفرصة التي يستحق...

الغربة مدرسة مِن الطراز الأوّل.. ولكن ليس لديها إلا أسلوب تعليمي واحد هو القسوة.. قسوة اشتياقك كل يوم لِحُضنِ أمك الدافى لجُرعة الحنان التي تعودّت عليها في كلِّ صباح..

وحين تغترب لا تحاول أن تفضفض لصاحبك كل مشاعر الشوق والحنين التي تشعر بها فهو يعاني مثل ما تعاني... رِفقاً بقلبِ صاحبك.. ويبقي لك نفسك تشكي وتفضفض لها ما تريد وتعترف لها أنّ أقسي ما في الغربة ليس البُعْدُ عن أرضِ الوطن، وأن تعيشَ الأعياد في بلادٍ بعيدة ووحيدً... أصعبُ ما في الغربة هو الشعور بفراقِ الأحبة... احساسٌ أنك قد أصبَحْتَ أقوى على الصَّبر والتحمُّل... ولكنك تخاف على قلبك أن يتعوَّدَ فراقَ الأحبة..

الغربة كلمه لها معنى بائس حزين وهي شعور بالوحدة والأختناق بالرغم من وجود الهواء حولنا، والقيود بالرغم من الحرية... وعدم الإنتماء يشعر به الغائب عن وطنه، فالشعور بالغربة مرتبط بالبُعدِ عن الوطن والأهل والأرض.. ما أصْعَبَ الغربة.. وما أصعب البُعْدَ عن هواء الوطن، لا شيء يعدل حُبَّ الوطن..

ومهما غاب الإنسان عن وطنه.. ترابه وسمائه.. أفراحه تبقى معلقة فيه ولا يعاني الشوق إلا من كابده، ولا يشعربالغربة والحنين إلا من عاشهما لحظة بلحظة...ولا يحسُّ بالألم إلا من تذوَّق مُرّ ضرباتهما... ولا يشعر بقيمة الأرض والوطن إلا من ذاق طعم الغربة وقسوتها... وينتظر اليوم الذي يعود به لوطنه منبع الذكريات التي لا تجف ولا تنتهي..

الأرض تحتضن جميع أبنائِها بحُبٍّ وتمنحهم خيراتها الكثيرة ليأكلوا منها ويعيشوا في ربوعها في أمنٍ وسلام.. فمن الواجب الدفاع عنها وحمايتها من الأيادي التي تتطاول لتنال منها وتحرمنا من خيرها.

ظاهرة الهجرة والإغتراب عن الأوطان أزلية صاحبت وجود الإنسان على الأرض.. آدم عليه السلام أول مغترب حيث انتقل من موطنه وهو الجنة إلى وطن جديد وهوالأرض... غربة الوطن وغربة الروح هما وجهان لعملة واحدة.. وهما نوعان « اغترابٌ داخلي واغترابٌ خارجيّ فهي لا تعني الإبتعاد عن الوطن الجغرافي كما يكون المغترب خارج حدود وطنه فقط... وإنّما عن المكان سواء في اطارٍ جغرافي تحكمُه حدودٌ كانت بين مكان وآخر داخل حدود الوطن أو خارجه... والمكان هو من يصنع الحنين والذكريات.

يكون تفكير الشباب بين الحُلم والواقع يتأرجح ليصطدم بظروف محيطهم.. فتتلاشى بسببها كل تطلعاتهم المستقبلية والطموح؛ كالعلم والدراسة والعمل وغيرها من الأسباب التي تشجعهم وتدفعهم للتفكير بالهجره للبحث على عالمٍ جديد وعلى أملٍ أن يتحقق لهم ذلك... قد يسافر البعض بحثاً عن تحقيق حُلم ٍما... والبعض من شبابنا يرى في الهجرة مَهْرباً ومُتنفساً ومناخاً أرحب لتحقيق ذاته... وصعوبة الحصول على وظيفة وتحسين مستوى الدخل, والإحساس بالعجز عن تحقيق الذات؛ كلها أسباب تدفع الآلاف مِنَ الشباب للبحث عن أمكانية الاغتراب للخارج لتحقيق طموحاتهم.

والبعض الآخر يرفض مبدأ السفر للخارج والاغتراب؛ ليفضل البقاء في وطنه رغم المصاعب التي تواجهه في بناء مستقبله الذي يرغب، رافضاً مبدأ الهجرة ومرارة الغربة.. والبُعدِ عن الأهل والأحباء والشوق للوطن،

كلها ضرائب يدفعها المغترب طوعاً أو كرهاً... وتتجلّى وخطورة الإغتراب أنّه يجعل العودة إلى الوطن صَعبة بعد أن يكون البعض قد تأقلم على الحياة هناك وسهولة العيش فيها.

لقد أصبحت الغربة في هذا الزمن قضاء وقت بلا طعم، وَسِجناً بلا حُكم، وفوق هذا وذاك.. فقد ولى قطارُ العمر وفات إلى غير رجعة مع غربة لا تعرف للشط طريقا.

وإذا كان هذا حال الغربة بكل ما أفرزتها مِن سلبيات أضرَّت كثيرًا بالمغتربين.. لماذا لا نعيد النظر في (كنز القناعة)؟ لأنّ القناعة كنزٌ لا يفنى ونرفع هاجسَ الخوف الذي يُراودنا مِن صعوبة العيش؟ وهل صحيحٌ إن عدنا وعاد بنا الحال سنُعاني أكثر مِمّا نعانيه في الغربة؟ ما يزال متسع من الوقت كي نلحق بقطار العمر.. ويكفي أن نقول.... إذا كانت الغربة سِجْنا بلا سَجّان.. فالعيش في الوطن نزهة وأمان.

 

 

 

المصدر: الدستور

 

 

 

المصدر: الدستور

19 Dec, 2020 01:45:43 PM
0

لمشاركة الخبر