Skip to main content
الكرك.. سيدة الحضور المتألق

الكرك.. سيدة الحضور المتألق

 

تناديني عرائس الوادي وتُلحُّ عليّ في النداء.. وتتلقّى نداءَها الكائناتُ والهضاب والفضاء الممتد من قبر نوح الى الجبال المقلوبة على كتف البحر الميت، وتلتفت هضاب فلسطين للنداء من عين جدي حتى نقب النخبار.. وأنا أحوم ما دون الجوزاء فوق عرانين الجبال يقظان أحرس ذؤابة المجد في مؤاب بأجنحتي من الموجب/ أرنون الخالد إلى الحِسا الماجد.. أنا هكذا من أبد الأبيد. وأُشفق على العرائس في الوادي الساحر الذي يُطوّق الكرك من الشرق والشمال والغرب مروراً بعين الست وعين سارة الى ان يُعانق البحر الميت في الغور، وأرمقهن بعيني كلما حططت فوق صخرتي على سفينة نوح وجعلت قلعة الكرك على كتفي اليمنى وقبر نوح تحت جناحي.

ينادين: يا أيها العقاب الحر المخلص، هلاّ التفتّ إلينا؟ إنّا ننتظرك من زمن عند عين سارة.. هلُمّ إلينا لنتحدث عن ذُرى المجد هنا ونتتبع معك دروب الحضارات وخطاها على ثرى الكرك سيدة المدن وحارسة الصحراء وقديسة الجبال.

وأترفّق بهن وأهبط ثم أدنو وأقترب وأقول: ها أنا بين أيديكن، فيقلن: هو أنت منذ عشرات القرون لم تكل ولم تمل من التحليق.. تذرع أرض مؤاب شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً هلاّ خططت لنا على صفحة الوادي بعضاً مما شاهدت ووعيت؟فابتسمت وقلت: يا رعاكن الله! ما أنا إلاّ عاشق للأعالي ومفتون بالفضاء ومهموم بأمن مؤاب، ولا وقت لدي كي أكتب، وأنتن أدرى بما على الارض من تواشيح وآثار ونقوش، وترقبن من مرّ عابراً أو جاء غازياً أو استقر بانياً.. سأروي لكن ما رأيت.. هيّا اكتبن..

تفرح عرائس الوادي وتبدو عليهن الغبطة فتنبري واحدة منهن قائلة: أنا خطي جميل سأكتب ما أسمع.. فتوافق أخواتها..

وأقول: أنا العقاب الحر سيد هذا الفضاء، آوي عند المساء حين الشمس إلى مخدعها إلى وكنتي في(خَشْم) القلعة عند برج الحِمَاء الذي يواجه الجنوب، وأخذتُ على نفسي عهداً بأن أكون حوّاماً لا يكل في سماء المنطقة وحارساً لا يمل من رسالته، وقد أمضيت عمري في التطواف في هذا الفضاء المؤابي من الموجب شمالاً إلى الحسا جنوباً مروراً بذرى جبل شيحان وسهول القصر والربة والتواقيع الحضارية في البالوع/ المدينة المثلثة منعطفاً صوب أدر المتألق وصرفا ومقام سليمان وأحسو حسوات لذيذة من وادي ابن حماد الذي يحمل الخير في تعاريجه لينثره على جنبات مجراه قبل أن يصبّ ما تبقّى من حمولته في زغر/ البحر الميت/ بحيرة لوط، ثم أصّعّد الى راكين فتتراءى لي قلعة الكرك فأعود الى وَكْنتي وأنفض جناحي هناك..

وأقول لهن: ومن القلعة أطير الى الجنوب واتجاوز وادي(اِطْوي) الى سهل مؤتة الذي شهد أول مواجهة بين العرب المسلمين خارج الجزيرة العربية في الثامنة للهجرة، وها هو قوس مشهد مؤتة يلوّح لي، ولكن مآذن المزار تناديني فأدنو حتى اقترب من أضرحة الصحابة قادة المعركة فأقرأ الفاتحة عليهم، ومؤتة هي التي أسميتها أول القمح وأول الفتح، وبعد معركتها كان للامة شرق وغرب.. ويأخذني الهواء الغربي الى عراق الكرك وأغوص في ثَنْيات الاودية والجبال المخضرّة حتى أجد نفسي وجهاً لوجه أمام جبل(ضَباب) الشاهق الذي يتنفس من هواء الخليل وعسقلان وغزة ويطل على وادي الحسا من خاصرته الغربية..

وأخفق بجناحي مشرقاً إلى اميرة الصحراء(اِمْحي) ومنها انثني الى صوت لا يخفى عليكن قادم من(ذات راس) النبطية التي ما زالت تحتفي بمعابدها وجدرانها وساحاتها وتحتفظ بجدائل شقيلة المُخبّأة في خزائنها رغم عوامل الطبيعة، واستحضر من فضائها ما طاب لي من شذىً فوّاح وألق باهر مدفوعا من الحارثوحوشب ومالك ورب ايل وعبادة..

وتناديني ينابيع (العينا) فأنحدر إليها وعيني تجول في هذا المنخفض الواسع (الحسا)، وأتفيأ ظلال البساتين وأعبّ من مياهها الرقراقة، وأواصل التحليق فوق الحسا وحماماته المعدنية وأنعطف يميناً عائداً الى الهضبة الشامخة لألتقط أنفاسي في (مَجْرا) وعيني على مدينة الراس في مغارب الطيبة ثم أعود أدراجي الى القلعة.. هذا هو مسيري اليومي أيتها العرائس.

تصفق لي العرائس ويقلن: ها أنت أخذتنا في جولة جميلة إلى معالم المنطقة فأين تاريخها؟ هززت رأسي وقلت: تاريخ المنطقة طويل جدا وتمتد أحداثه لأكثر من ثلاثة آلاف سنة، سأفتح دفاتر التاريخ التي أحملها تحت جناحي وأروي لكن من وجيز الأحداث ما فيه الفائدة.

قبل أكثر من ألف سنة من ميلاد المسيح عليه السلام رافقت كل حملات القادمين الى المنطقة من أشوريين وبابليين وآكاديينوفرس، فكان منهم من استقر لبرهة ومنهم من مضى عابراً، ومن الذين استقروا هنا كان الرومان الذين اتخذوا لهم وكلاء يحكمون هم الغساسنة..

لقد كنت مع القبائل الإيمية المتفرعة من الأموريين، وكانت هذه القبائل ترعى بأغنامها هنا ولم يهتموا كثيراً لضرورة إعمار المنطقة، لذلك فتحوا المجال للمؤابيين الذين أرسوا فواعد مشروعهم الحضاري من ذيبان حتى سيل الحسا فبنوا قلعة الكرك قبل ميلاد المسيح بثمانية قرون وفق ما ظهر في نقش ميشع المؤابي المحفوظ في متحف اللوفر بباريس ومن هذا النقش:(أنا ميشع بن كموشيت ملك مؤاب الدْيباني, أبي ملك على مؤاب ثلاثين سنة, وأنا ملكت بعد أبي, وأنشأت أهراماً, لكموش, ولقد بنيت ذلك لأن كموش أعانني على قهر كل الملوك, ولأنه أشمتني بكل أعدائي المبغضين).

قبل ذلك رافقت الوفد المصري برئاسة الفرعون(تحتمس الثالث) الذي زار مدينة البالوع وخلّد زيارته لها بمسلة فرعونية ظلت موجودة حتى منتصف القرن الماضي، وذكر فيها انه زار منطقة مؤاب في الشرق..

بعد المؤابيين رافقت طلائع الأنباط إلى المنطقة من خربة التنور الى ذات راس ثم الى قلعة الكرك وتراني شغوفاً بالوقوف أمام جدارية الفارس النبطي داخل القلعة وإن هذه الجدارية والفخّار النبطي تحمل تواقيع الحضارة النبطية وبصماتها، ويأخذني بعد ذلك النَفَس النبطي الى الربة والبالوع وأدر.

وتقول إحدى العرائس: هذا قبل الاسلام، وماذا بعده؟

تهتز أجنحتي وأنا أهُمّ بالكلام، فتقول العرائس: ما بالك؟ فأقول وعيناي شاخصتان صوب الجنوب: استشهد رسول رسول الله الحارث بن عمير الازدي في بصيرا/الطفيلة على يد اعوان شرحبيل بن عمرو الغساني وكيل الاستعمار البيزنطي في المنطقة، فعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فسيّر جيش مؤتة، وكنتُ معهم وهم في معان ورافقتهم الى مؤتة وشاهدت ما شاهدت من شجاعة المسلمين والعرب النصارى من ابناء المنطقة وانحازوا للمسلمين، وأعجبني خالد بن الوليد وهو يتفنن بخططه لإنقاذ الجيش والعودة به الى المدينة المنورة، وفرحت حين قال الرسول عن جعفر بأن الله تعالى أبدله بجناحين يطير بهما في الجنة بدلا من ذراعيه، فأي تكريم هذا للجناحين أيتها السيدات الكريمات!

وما هي الا فترة قصيرة حتى دخلت المنطقة في الحكم الاسلامي إلى أن عاد الاغراب الفرنجة مرة أخرى فنكلوا بالعباد والبلاد وكان أقساهم(إرْناط) حاكم الكرك الذي جعل من هذا المكان مَكْمَناً خطيراً لقطع الطريق ما بين الشام ومصر والجزيرة، ولكن الله ناصرٌ دينه وهو مع الواقفين على الثغور من اجل الحرية والسلام، وما هي إلا سنوات حتى ظهر نجم الايوبيين وبرز منهم الناصر صلاح الدين الايوبي الذي حرر المنطقة وسيّر حملتين من الكرك لمواجهة الصليبين في فلسطين وانتصر عليهم في معركة حطين الخالدة وقتل ارناط جزاء ما اقترف من أعمال مشينة، ومن مراتب الشرف للكرك ان أول شهيد سقط في حطين هي امرأة كركية كنانية واسمها(جنان)وكانت حاملاً ولم يُقعدها الحمل ولا ريعان الشباب من القتال حينما سمعت بالنفير العام.

كانت العرائس تنصت متأثرات، فقالت واحدة منهن: رحم الله جنان، وربما يكون هناك الكثير من القصص؟ وقلت: وما أكثرها ووددت لو أروي العديد منها لولا الخوف من الإطالة والإملال.

المهم ان الكرك لأهميتها وخطورة موقعها اصبحت إمارة أيوبية وتمتد سلطتها من عَمّان حتى العقبة، وفي فترة المماليك كان لها شأن كبير وبخاصة زمن الظاهر بيبرس، ثم تحولت زمن الناصر احمد الى عاصمة فسميت بمملكة الكرك ونُقلت اليها الاختام وخزائن المال من القاهرة لمدة ثلاث سنوات، فأي شرف لهذه المنطقة كهذا الشرف!

وأصمت طويلاً وأنا أُرسل نظري مع الوادي، فتقول احدى العرائس: أين ذهبت؟ فأنفض ريشي وأعود إليهن وأقول: وتدخل المنطقة في عهد الاتراك اربعمئة سنة من الركود والجهل والظلم، وكنت أسفان غضباً من هذا المصير المظلم.

قالت إحداهن: ألم يكن هناك موقفٌ أو نقطة مضيئة في هذا الدهليز؟قلت: نعم، سأذكر موقفين كنت عليهما شاهداً، الاول حين طارد ابراهيم باشا المصري حاكم مصر أحدَ احرار فلسطين وهو المناضل قاسم الأحمد الزرعيني الذي استجار بشيوخ الأردن فلم يُجره إلا أحد شيوخ الكرك وهو(ابراهيم الضمور)،فحاصر ابراهيم باشا المصري الكرك،وهدد بقتل ولدي الشيخ حرقاً او تسليم الأحمد، ولكن الضمور أبى وأوصل ضيفه سالماًإلى القدس في حين كانت النيران تلتهم ولديه وقالت أمهما/ عليا الكركي حينها: المنية ولا الدنية.

والموقف الثاني هو (هيّة الكرك) قبل مئة سنة ونيف، إذ بلغ الظلم الواقع على الكرك مداه، وكنت أحوم في سماء المنطقة وأشاهد الطغاة كيف يسومون الاحرار سوء الإذلال، فتداعى أحرار الكرك للوقوف بوجه الظلم وكان ذلك في نهاية عام 1910، فانتفضوا وأشعروا الترك الاتحاديين بأنهم يعشقون الحياة والحرية، وكانت القلعة محط الأنظار من جديد، وسقط على سلّم الحرية اكثر من مئة شهيد.

وأقول لكُنّ: إن هيّة الكرك كانت المهاد الشعبي للثورة العربية الكبرى التي تلاها بسنوات تأسيس إمارة شرقي الاردن وبعد ذلك كانت المملكة الأردنية الهاشمية التي أعيش معها اليوم المشهد الحضاري الحديث مع كافة أبناء الاردن.

صفقت عرائس الوادي لي وقلن: رحلة رائعة حملتنا بها على جناحيك وقلّبنا بها سريعاً صفحات من تاريخ الكرك الأبية.. ورفرفتُ بجناحي وقلت: سآوي الليلة فوق مصطبة القدس في القلعة لأواجه مصطبة الكرك في القدس الشريف فأنا في شوق للحرية والأحرار..

 

 

المصدر: الدستور

09 Mar, 2021 11:04:32 AM
0

لمشاركة الخبر