Skip to main content
عشقية الخطاب في «رسائل ورد» لعايدة تحبسم

نقرأ في رسائل ورد للكاتبة عايدة هاشم تحبسم رؤى حالمة لمستقبل واعد، تداعب من خلالها الكاتبة الطبيعة بحروفها وتنبض بحبّ الحياة، فما حروف الندى وخيوط الفجر إلا إزهار  لرسائل ورد كما جاء في إهداء الكتاب.

أبدعت عايدة كتابها الأول» بين الليلك والأزرق» فجاءت «رسائل ورد» تفصيلاً لمشاعرها المتدفقة ووجدانها الثائر.

  حظيت» رسائل ورد» بتقديم المبدع الكاتب نايف النوايسة الذي أشار إلى خصوصية هذه الرسائل وهي متأتية من صدمة الفقد( الذكرى والحنين والمشاعر والشوق للماضي) ثم الحيرة ( معاودة الرحيل، البحث عن الذات) ثم التمني والصبر على الفقد، لينبثق الحلم متوهجاً برؤى الكاتبة، ومتحداً مع الطبيعة؛ ليلج العالم بسطوع الشمس ونور الحقيقة.

لقد نجحت الكاتبة في اختيار المفردة القادرة على حمل المعنى، إنها مفردة استثنائية خافقة بالحياة ومرارة الفقد معاً.

   إنّ العناصر التصويريّة حاضرة في نصوص الكاتبة، بل إنّ إيقاع البلاغة يزاحمه توالي الأفعال، وحركيتها الفاعلة بشكل مراوغ، وبانعطاف شعوري يتصاعد من بؤرة الانفعال الحاد الذي يختزل مساحة النسيج اللغوي؛ لتتشكل الرؤى بإيقاع فني عذب ينعتق من مأسوية الواقع في فضاءات واسعة من الحرية.

القارئ لنصوص الكتاب الوجدانية يلمس تكثيفاً للفعل المضارع، لما يمنحه من حيوية وخصب وبخاصة عندما يرتبط بأوراق الورد، كما في  قولها ص( 11):

يلوحُ طيفكَ/ فاتنهدُ الاشتياق/ ترتجفُ أطرافُ الانتظار ، وترتعشُ زوايا روحي/ يُدهشني الحنين إليكَ/ وأخشى أن تفضحني نظراتي/ في متاهات الليل

يلوح، أتنهد ، ترتجف، ترتعش، يدهش، أخشى، ألوذ،...).

استعاضت الكاتبة في خواطرها النثرية عن الوزن والقافية الذي تتميّز به القصيدة الغنائية بالصورة الحيّة والتجسيد الفني الراقي للمعنى، نقرأ في ص(11): 

ألوذ بصمتي وأتلو صلوات وحدتي/ نجمةُ الصباح تطرق نافذتي/ وتغني الأرضُ أهزوجةَ الفجر/ فتغازلُ الفراشات أوراقَ الورد

   أيُّ معنى حُلمي هذا وروحٌ عشقيّة لطبيعة نعانقها حتى نتحدّ فيها، إنّها العاطفة والمشاعر الصادقة عندما تسيطر على وجد مبدعة خطّت الأيام على جدار قلبها أحداثاً ومعاناة لا يمكن نسيانها.

هكذا تبدو عايدة هاشم في قصائدها النثرية روحٌ متوقدة ووجدان ثائر وقلب عاشق للجمال.

لا بدّ هنا من الوقوف على أثر فعل الغياب والفقد بمعاناته ومرارة ذكرياته في توليد الصور الفنية، ممّا يُفضي إلى سرد قصصي يكشف عن حوار داخلي عميق، كما في قصيدة ( قاروة المطر) ص13:

 بحثتُ عن بقايا صوركَ وبحثت/ وما كان بحثي كما توهمت/ أردتُ / أن أُلقي عليكَ التحيةَ.../ تلو التحية..بكلّ وقت.

  يبرز الوطن بصورته الأبهى، ومعناه الأسمى صورة لا تكاد تُفارق وجدان وفكر الكاتبة ، فهي عاشقة حقيقية له، ممّا جعلها تقدم نفسها قرباناً لخلاصه من كلّ ما يُعانيه من ضيق، تقول في ص( 15):

وطني وددت لو استمعت لسان حالي/ يرددُ/ ليتني غيمةً ماطرةً/ تُساقطُ / فوقَ تُرابك/ لتُنبتَ في حدائقكَ/ سنابلَ العطاء

  تبرز في خواطر الكاتبة الوجدانية جمالية التجسيد وحركية الصور بوصفها خصيصةَ فنية تكاد تكون واضحة في قصائد عايدة تقول: ( برج شمسك) ص 19.

يتوضأ الحبُّ في محراب العشق/ وتطلّ الشمسُ من برجها العالي/ تنادي/ عليّ وعليك

عندما تبتعد الكاتبة عن الصورة والتجسيد تقع في النثرية المباشرة كما في بعض نصوصها ، كذلك وقعت في المباشرة أحياناً والتكرار في المعنى، وبخاصة عندما تتحدث عن الفقد كما في ( بلاد العشق أوطاني) ص 73. 

 لكنها تسمو بالصور الفنية كما في قصيدة( فوق جناح الغيم) ص37 : يوقظني الليلُ بآهاته/ ويأمرني الحلم أن أتابع التفاصيل بثبات/ تخطفني العتمة.

تميل الكاتبة إلى القصيدة القصيرة جداً ممّا يجعلها تقترب كثيراً من الشعريّة وذلك لتضافر عناصر التكثيف والتجسيد والتركيز العاطفي وقوة المعنى ودلالته الإيحائية كما في قصيدة ( حقول الصمت) ص51 حيث تقول:

يا جلنارُ/ أيقظ ذاكرتي/ من سُباتِ حُلمٍ/ طوتهُ مسافاتٌ/ في دهاليز/ حُقول صمت/ طوتهُ السنين/ يا جلنارُ نادي على الشمسِ/ تعلنُ ميلادَ صباحٍ/ من زهرِ الرمان

قصيدة ( من خلف المسافات) ص58: يُسدل الليل الجفون/ ترتجفُ الأهدابُ/ ومن خلف المسافاتِ/ أنتظرُ لأسمعَ وقعَ الخطواتِ!/ تتوه عقاربُ الوقتِ.../ فاسأل عنك النجماتِ/ وأرصفة الطرقاتِ/ على الحائط المجاور/ ياسمينةً تغفو بصمت!

   عندما ترتدّ الكاتبة إلى ذاتها فإنها تقترب كثيراً من الشعريّة،  وتصبح أكثر قدرة على التأثير، والادهاش وصياغة المفردات وإدخالها في علاقات انزياحية ذات معنى معبر.

  لذلك فإن محاولة القبض على المعنى تخف وطأتها بفعل سلطة السرد وانفلات الذات بشكل يمنح النص قدراً من التفصيل، ويبعث فيه رؤى متمردة لا تقبل الاستكانة، ممّا سمح للصور بالاحتشاد، وللغة بالتشكّل وفق منظومة جديدة توحّد الذات في مدركات حسيّة نازفة.

يبرز في الكتاب موقف الكاتبة من الزمن وضيقها بزمن ثقيل في ظل صراع نفسي مرير تحياه الذات الشاعرة بسبب تعاظم فعل الفقد ومرارة المعاناة، إذ تضيق الكاتبة ذرعاً بزمن ثفيل لا يحمل إلا الألم حيث تقول في تجسيد واضح لمرارة الفقد( ص74)

يسير الوقت متلكئاً / وعيون الزمن مثقلة بالهموم/ تتنهدُ السماءُ/ وتبتلعُ القمر/ يتمادى الظلامُ/ في غياهب الليل

ونحن نودع شهداء الوطن الواحد تلو والآخر قوافلُ شهادة وفداء تنبعث بحبّ صادق لوطن لا يُفارق وجداننا رثاء الشهيد معاذ الكساسبة الغائب الحاضر( ص76): 

من رُفاتك رائحة مسك لا تنتهي

يظهر في نصوص الكاتبة الوجدانية تفعيل لقدرة اللفظة على التعبير وكأنها تمنح اللغة من وجدها معنى آخر غير مألوف تصوغه من فيض تجربتها ووحي معاناتها من وجدانها الثائر ولغتها الخاصة ذات المعنى العشقي كما في قصيدة( على صدر المساء): ص 106:

على شفاهِ القصيدةِ ترتسمُ الحكايا/ لِتبوحَ ببعضِ أسرارها/ فتعانقَ الحروفَ/ لترسمَ أسطورةَ العشاق!.

يبرز الليل بوصفه ملهماً لصور الكاتبة فهو رفيق العشاق وحافظ الأسرار كما في قصيدة( مواويل) ص 114:

يُلهُمني الليلُ/ لأغني/ بعدَ أن خانتني مواويلي/ وقصائدي/ في عتمة الغياب/ يراودني طيفكَ/ يرافقني/ يلازمني

  فالليل محور الحركة، والحياة وصورة متألقة من الصور الفاعلة في نصوص الكتاب، فضلاً عن كونه أحد عناصر الطبيعة الصامتة التي يخلو فيها الإنسان للعبادة والإنصات للذات بكلّ متعة.

تظهر في النصوص الوجدانية الصور اللونية المجسدة للمعنى كما ( ذراع الأحلام) في ص (115): فوق شفاهٍ قرمزيةٍ / نضجت الحكايةُ / وحانَ وقتُ قِطافها/ ومن تمتمات العشقِ/ تتهامسُ النجومُ/ وتتسامرُ عناقيدُ الشوق تتزاحمُ في السماء/ ونجمة الليل ..تُهدي السلام.

تبرز عمّان ملهمة ولا أجمل من عمّان والمحبوبة السيدة الجليلة لتلهم بالشعر، تغنى بجمالها الشعراء وتغزّل بها العشاق: حيث المكان والزمان والجغرافيا والطبيعة( ص119):

أيا عمانُ فوق شطآن عينيك/ تغفو حروفُ قصيدتي/ فتحرسُها أهدابك/ تُظللها هضابكَِ، التي زُرعت زيتوناً/ وبيلساناً / وزعتراً أخضر

بيروت تعانق عمّان وجداً وعشقاً. نقرأ في بيروت وجداً لا تنطفئ جذوته.

تبدو الفراشة لافتة النظر في نصوص الكتاب إذ تكررت أكثر من مرة مفردة وجمعاً، ممّا يجعل البحث في دلالتها أمراً ملحاً،  إذ تشير إلى دلالة الحلم ذي الطابع الميتافيزيقي الحُلمي فهي ليست الفراشة الواقعية، بل هي فراشة الشعر التي تعيش كل العصور منذ القدم وحتى يومنا هذا، فراشة الحبّ وليست فراشة الفوضى والتوقع. إذن هناك احتمال واسع أن الفراشة جاءت استعارة ولم تأتِ الفراشة بطبيعتها المألوفة. 

 جاءت  التشكلات الوجدانية في نثر عايدة من خلال الرؤيا التي تبوح بها النصوص، وأخيراً من خلال التشكيل الذي أظهرته الصور الفنية واللغة الانزياحية المجسّدة للرؤيا والمعمقة للفعل البصري الذي تسعى الكاتبة إلى إظهاره. فالشعر ليس مجردَ قوافٍ و أوزانٍ فحسب، إنّه واقع وخيال، ينبع  من مشاعر وأحاسيسَ عميقةٍ، فيحركُ الوجدان، وتهفو إليه القلوب، وهذا ما نلحظه في نصوص الكاتبة تبوح بمشاعرَ لا تستطيعُ إخفائَها. ظهرت من خلال تشكلات: العنوان ودلالته الوجدانية.

    والقارئ لنصوص الكاتبة النثرية لا يجد صعوبة في البحث عن ذاتها الحالمة، بل يمكن أن يجدها في كلّ النصوص، حيث بساطة الألفاظ، والبعد عن التكلّف، تستمد قاموسها من الواقع، ومن معاناة نفسها المتصاعدة، حيث عالم الوجدان الذي يمتاز بالرؤى الحالمة، والاندفاع المغامر، فهو عالم غير مستقر، يلهث وراء الحقيقة، ويسعى إلى التوحّد مع الذات؛ بحثاً عن أمل مفقود.

  لقد حققت نصوص الكاتبة ثراءً وجدانياً واضحاً وبوحاً شفيفاً؛ لامتلاكها قدرات تعبيرية ثرّة، تعود لما تكتنزه من عفوية مقبولة تكتنزها البنية المختزلة لها،وكذلك لخروجها خروجاً خلاّقاً لا تخريبياً على النمطية السائدة من الأشكال التعبيرية الشعرية المقيدة بالوزن والقافية والإسهاب ،ولتخلّصها من هيمنة الأسلوب الواحد .

    ويبقى الرهان الأكبر لمثل هذه النصوص هو قدرتها التأثيرية في وجدان المتلقي،وخلقها أثراً تردّدياً كبيراً في داخل المنظومة الحدسية للقارئ، وهذا يتطلب منها امتلاك قدرة على الإدهاش، والاقتصاد في تكوين بنية النص من أدوات تعبيرية قليلة،دون الإسراف في العمل اللغوي الذي ينفر المتلقي من الفكرة،ويشتته بعيداً عن غرض القصيدة، ولذلك تحرص هذه النصوص أن تكون في غاية الحرص على تماسك بنيتها، كحرصها على بقاء وهج فكرتها.

19 May, 2017 01:24:50 PM
0

لمشاركة الخبر