Skip to main content
قصة «رسالة» لفرج ياسين

نزح الشكل الجديد الموصوف بـ (القصة القصيرة جداً) من حاضنة القصة القصيرة على نحو ضاعف ربّما من إشكاليّة التحديد والتعيين، إذ حتى (القصة القصيرة) وقد مضى على تداولها اصطلاحياً زمناً طويلاً مازالت تعاني من التباس مفهوم (القصيرة)، إذ تنحو فكرة القِصَر نحواً شبه عائمٍ غير محدّد بدقّة، فما المقصود إذن بـ (القصيرة)؟ وإلى أيّ حدّ يمضي هذا القِصَر؟ وما هو المعيار النقديّ القادر على وضع الحدود؟ حتى تأتي (القصة القصيرة جداً) لتضاعف من حجم الالتباس وتودي به إلى إشكال أكبر.
لو عرضنا شبكة المصطلحات العاملة في هذا السياق لوجدنا تنويعات مُربكة ومتداخلة ولا يمكن ضبط حدودها بسهولة، فهي تبدأ بـ (القصة) ثم تتنوّع وتتعدّد على هذا النحو: (القصة القصيرة/القصة الطويلة/القصة القصيرة جداً/الرواية/الرواية القصيرة/الرواية الطويلة/رواية الأجيال)، لتكون فكرة القِصَر والطول هنا ذات طبيعة فضائيّة وليست عدديّة، بمعنى أنّنا يجب أن نعتمد الفضاء السرديّ بوصفه المعيار الحاسم في هذه القضية وليس عدد الصفحات أو عدد الأسطر، وإذا كان الفضاء في مضمونه الاصطلاحيّ يعمل على تلاحم الزمن والمكان والرؤية، فهو هنا قد يتجاوز ذلك نحو عناصر مجاورة أخرى وفي مقدّمتها الشخصية.
النظر في عناصر التشكيل السرديّ الأساسيّة (الزمن/المكان/الرؤية/الشخصية) هو من يحدّد نوع المسرود القصصيّ، والنظر هنا هو النظر النقديّ العارف والخبير في تمييز الفضاء القصصيّ من الفضاء الروائيّ في مرحلة التحديد الأولى، ثمّ داخل كلّ فضاء من هذين الفضاءين يتمّ تحديد نوع القصة (قصيرة/طويلة/قصيرة جداً)، أو نوع الرواية (قصيرة/طويلة/رواية أجيال)، بناءً على ما يحتويه النصّ السرديّ من ممكنات سردية تعلن صفة الانتماء إلى مصطلح ما، ومن هنا قد يعفي الناقد نفسه من الالتزام الميثاقيّ التقليديّ مع الكاتب، حين يثبّت الكاتبُ على غلاف كتابه مثلاً (رواية) غير أنّ الناقد يصل في سياق معاينته للفضاء السرديّ أنّ المروي ليس سوى قصّة طويلة، وهكذا يمكن للناقد أن يحدّد طبيعة النصّ وهويته السردية على أساس تقييم الفضاء.
القصة القصيرة جداً بدا لأوّل وهلة وكأنّها مركب سهل لكلّ مغامر، ربّما يشبه في ذلك وعلى نحو ما قصيدة النثر، غير أنّ الكثير مما يكتب على أنّه قصة قصيرة جداً أو قصيدة نثر لا يمتّ بصلة إلى هذين النوعين الأدبيين، ولن تكون قضية القِصَر العامل الوحيد الحاسم في الانتماء إلى جنس السرد أو الشعر، لذا يمكن القول إنّ شروط كتابة القصة القصيرة جداً أصعب من بقية الأنواع القصصية الأخرى، على نحو يجعل النادر ممّا يكتب تحت لافتة القصة القصيرة جداً هو الصالح فنياً وجمالياً وتقانياً لينتمي إليها، والكثير الكثير منه لا قيمة له.
نتناول هنا نموذجاً من نماذجها المتكاملة فنياً وجمالياً للقاص فرج ياسين بعنوان ((رسالة))(*)، والعنوان في إفراده وتنكيره يحيل ابتداءً على فكرة القّصَر والاختزال والاقتصاد والنحت اللغويّ والصوريّ، وحين نتوغل في متن القصّة سنجد إنّ عتبة العنونة القصصية تتحوّل إلى نموذج البطل القصصيّ، في سبيله إلى الانتقال من طبقة التنكير إلى طبقة التعريف، ومن طبقة الإفراد إلى طبقة الإجماع، وحين تؤنسن الـ (رسالة) وتتشخصن سردياً فإنّها تتحوّل إلى راوٍ ذاتيّ تروي سيرتها ضمن مدى زمنيّ محدّد بعمر مأساة المكان الذي تتحرّك فيه.
تستهلّ الـ (رسالة) روايتها لسيرتها في المرحلة الأولى من مغادرتها مكانها الطبيعيّ على منضدة الكتابة بفعل الهواء المعفّر بالغبار القادم من الخارج، في سياق وصفيّ ـ سرديّ يقتصد في الوصف والسرد وضبط الفضاء القصصيّ ـ زمناً ومكاناً ورؤيةً ـ على هذا النحو:
تيارُ الهواء المعفّر بالغبار القادم من النافذة المفتوحة على الممشى الغربيّ هو الذي أزاحني من تحت حافظة الأقلام الاسطوانية الصغيرة، فقفزت واستلقيت على الأرض تحت منضدة الكتابة، ثم طرتُ ذاهبة إلى طوار الباب المفتوح، وهناك لم أقوَ على الحركة؛ لأنّ أرض الممشى الموحلة بفعل المطر ألصقطني بقسوة، وكتمت أنفاسي؛ 
المفتتح السرديّ للقصة مفتتح ممسرح يتحرّك بدقّة متناهية على مسرح المكان، ضمن فعالية حركية سينمائية تتسلّط فيها كاميرا الراوي الذاتيّ على مشهد السرد الممسرح والمفلمن في آن، فالتشكيل المكانيّ يتوزّع بتمظهر دقيق على مساحة اللقطة السردية، ويشغل فضاءها على نحو مكتمل (النافذة المفتوحة/الممشى الغربيّ/حافظة الأقلام الاسطوانية الصغيرة/الأرض/منضدة الكتابة/طوار الباب المفتوح/أرض الممشى الموحلة)، وتسهم أفعال الراوي الذاتيّ ذات الطابع الدراميّ بتحويل اللقطة السردية إلى مشهد مسرحيّ سينمائيّ، تبلور تشكيله داخل أفق المعنى القصصيّ على نحو بالغ التماثل والصيرورة (أزاحني/فقفزت واستلقيت/طرتُ/لم أقوَ/ألصقطني/كتمت)، وكلّها أفعال من صنع الآخر السرديّ الفاعل في تكوين المشهد الحركيّ، لأنّ الراوي الـ (رسالة) تظلّ محتفظة بعجزها الورقيّ حتى وهي تروي، لكنّها تطلق عدستها العينية لكي ترى وتروي وتصف على نحو يحقّق الهدف الرساليّ من مضمونها الكامن قَبْلاً، ومضمونها العلاميّ المحكي سردياً بَعْداً، إذ ثمة رسالتان تتحركّان في فضاء التشكيل الرساليّ، مضمون الـ (رسالة) المكتوب في الأصل، ومضمون الرسالة المحكي في أداء ورقة الرسالة على مسرح الحكاية.
الاستئناف السرديّ يعمل على استدعاء شخصيّة جديدة تدعم حضور شخصية الـ (رسالة) وتخفّف من وحشتها، وتمنحها فرصة مضافة لفتح الجوّ القصصيّ على أفق آخر، وتوسيع حجم الحكاية، وتكبير الصورة السردية على شاشة القصّ:
لكنّ قطة جائعة عجفاء لم تذق سوى التراب منذ شهور لعقتني وقضمت أطرافي، جارّةً إياي إلى قائمة الأرجوحة أمام شجرة الليمون، فبقيتُ هناك حتى جففتني شمسُ ظهيرة يوم آخر، وعلى مدى شهور طوال تجوّلتُ في زوايا ومنعطفات وحجرات البيت، وبين الممرّات وفوق النجيل المحروق، كما دخلت أكثر من مرّة في سواقي الحديقة العطشى ثم خرجت منها، وذات مساء التصقتُ بنافذة غرفة المكتبة بالقرب من المبردة، وكدت أعبر الحائط إلى الخارج لولا أنّ دوّامة هواء عابرة أعادتني إلى فضاء الحديقة، فمكثتُ مختبئة تحت أغصان شجرة الزيتون في الجانب الآخر، 
الشخصية القادمة إلى مسرح الحدث القصصيّ هي (قطة)، تتقدّم بصفتين تلائمان طبيعة المكان (جائعة عجفاء)، داخل ظهير صوريّ بالغ القسوة (لم تذق سوى التراب منذ شهور)، يضطرّها إلى القيام بفعل يائس لكنّه لا سبيل غيره من أجل دفع غائلة الجوع (لعقتني وقضمت أطرافي)، إذ ثمّة بناء هرميّ متماسك للصورة السردية يجري على وفق إدارة محكمة ينهض بها الراوي الذاتيّ الكامل الأنسنة، وسرعان ما ينتهي دور الشخصية الجديدة كي تنحّى جانباً بعد أن توصل شخصية الـ (رسالة) إلى منعطف سرديّ يسهّل لها متابعة الحكي (جارّةً إياي إلى قائمة الأرجوحة أمام شجرة الليمون، فبقيتُ هناك حتى جففتني شمسُ ظهيرة يوم آخر)، وبعدها يتواصل سرد السيرة داخل طبقات المكان في سلسلة تقلّبات وتحوّلات تحفظ وجودها داخل سياج البيت، وهو ما يبدو وكأنّه الهدف الأساس من كلّ هذه الجولات دفاعاً عن الحضور في المكان وعدم الاضطرار إلى مغادرته، وتجلّي تفاصيل المكان (البيت) على هذا النحو يوحي علامياً بحضور ضمير حيّ يقود الـ (رسالة) في وضعها القصصيّ المشخصن نحو فكرة الإخلاص والانتماء والأمانة.
ثمّة شخصية ثانية تدلف إلى فضاء السرد القصصيّ للقيام بمهمة الشخصية السابقة، وهي شخصية حيوانية تؤكّد غياب الشخصية الإنسانية تماماً، توصل شخصية الراوي الذاتيّ إلى مرحلة أخرى من مراحل السرد السيريّ المكانيّ:
وكان القنفذ العجوز الذي كنتَ تعدّهُ من سكّان البيت الأصليين قد تمرّغ فوقي بفروته الإبريّة؛ وهو يطارد جرادة شاردة ضلّت الطريق ومع أنّ باب البيت الخارجيّ ظلّ مفتوحاً مثل جميع الأبواب الأخرى، إلّا أنني سقطتُ بين أقدامه لم أخرج إلى الطريق أبداً، ولم تُمحَ الكلماتُ التي قمتَ بكتابتها على صفحتي السمراء في اللحظات الأخيرة عند خروجك الحزين من البيت قبل أحد عشر شهراً.
شخصية (القنفذ العجوز) بحضورها التاريخيّ الأصيل في المكان (الذي كنتَ تعدّهُ من سكّان البيت الأصليين) دخلت ميدان السرد لتسند الراوي وتسهّل مهمته (قد تمرّغ فوقي بفروته الإبريّة)، ولتقوم بنوع من الأداء ينتمي إلى فكرة الإخلاص والأمانة نفسها (ومع أنّ باب البيت الخارجيّ ظلّ مفتوحاً مثل جميع الأبواب الأخرى، إلّا أنني سقطتُ بين أقدامه لم أخرج إلى الطريق أبداً)، ولعلّ إشارة فتح الأبواب تؤلّف دلالة إضافية مع إصرار الـ (رسالة) على المكوث داخل حدود البيت، ومن ثمّ الحفاظ على الكلمات التي توازي الحفاظ على موجودات البيت (ولم تُمحَ الكلماتُ التي قمتَ بكتابتها)، وكأنّها تميمة شاء الكاتب أن يدوّنها على صفحة الرسالة كي تحفظ سرّ البيت (على صفحتي السمراء في اللحظات الأخيرة عند خروجك الحزين من البيت قبل أحد عشر شهراً.)، وقد انفتح الراوي الذاتيّ الـ (رسالة) على الكاتب/المؤلّف البعيد عن فضاء القصّ كي يرمي خطابه بين يديه، ويوصل الفكرة اللابثة في جوفه على شكل كلمات بأمانة.
شبكة العلاقات السردية الموجزة على مستوى هندسة وصف المكان، وإطار الزمن، وتفاعل الشخصيات، ومسرحة الحدث القصصيّ في تموّج فعليّ يختصر العلامات في دوال مركّزة بصورتها وأدائها، يجعل من الفضاء العام للسرد منتمياً إلى (القصة القصيرة جداً)، ليس في قِصَرِ الكلام المؤلِّف للكيان اللغويّ للسرد فحسب، بل في حساسية الأداء القصصيّ المكثّف ببطانته الرمزيّة الدالّة على المعنى السرديّ المولّد، على النحو الذي يتجاوز الموقف والرؤية والحالة نحو تكوين عالم قصصيّ شديد الكثافة والتركيز والالتئام بأقلّ ما يمكن من الألفاظ.
(*) قصص الخميس، منشورات إمضاء، بغداد، ، 2017.

26 May, 2017 11:14:26 AM
0

لمشاركة الخبر