Skip to main content
عزاء بارد ... رسالة من الهاوية.

في الشريط المسجَّل، يبدأ الصوت قبل الصورة. تسمع هيرا صوت ابنها في الخلفية، يقول: "ابدأوا تشغيل الوكيل".

تلحظ رجفة خفيفة، ودلائل استسلام وأسى. بعد ذلك، يظهر وجهه على الشاشة شاحبًا، وتقبع تحت عينيه البُنِّيَّتين هالات سوداء.

تسأله استخبارات السفينة: "مَن تحب أن تخاطب بالوكالة؟"

يجيب صوته بحشرجة: "أمي"، ويضيف: "وأبي".

"آه، يا ليو"، تقول ذلك وهي متوجهة نحو الشاشة الموجودة في "كابينتها"، لكنه لا يستطيع سماعها؛ إذ تفصلهما – أو كانت تفصلهما - مسافة تقترب من 3 مليارات من الأميال، ما يعني أنه لم يسمع بعد ما حدث لأبيه، ولا يعرف أن أباه لن يرى هذه الرسالة أبدًا. فمع المسافات الحالية، تستغرق كل رسالة أكثر من أسبوع لتصل إلى وجهتها.

في الشريط المسجَّل – على أية حال – لا يستغرق الأمر سوى ثانية واحدة فقط ليبدأ تشغيل الوكلاء شبه الأذكياء.  

ينمّ صوتها عبر التسجيل عن سعادة لا تعبِّر عن مشاعرها الحقيقية، وهي تقول: "ليو! يا لها من مفاجأة سارة!".

يقول زوجها بالوكالة: "مرحبًا أيها البطل".

يرد ليو: "مرحبًا أمي، وأبي".

مع استخدام الوكلاء.. يشعر ابنها دائمًا بالتوتر، وبأنه مجرد نسخة مقلَّدة فقيرة من نفسه، بدرجة تدعو إلى السخرية. يتوقف عاجزًا عن النظر إلى الكاميرا.

يقول وكيل زوجها: "بُنَيّ؟ هل أنت بخير؟"

تلمح هيرا إيماءة خفيفة من رأس ليو. تقول في نفسها: "لا، من الواضح أنه ليس كذلك"، لكنّ نسخة وكيلها لا تلاحظ ذلك.

تقول النسخة المقلدة: "هل حصلت على أشرطة فيديو أعياد الميلاد الخاصة بنا؟"

"يا لها من حقيرة عديمة الإحساس"، هكذا تفكِّر هيرا.

يومئ ليو بذهن مشتت، ثم يردف: "عندي أخبار سيئة".

يصدر عن الأم المقلدة صوت استباقي مكتوم ومتوجع. إنه صوت الفزع والإثارة، كما أنه دقيق بدرجة فائقة، حتى إنّ الأم الحقيقية تدرك من "كابينتها" أنها أصدرت الصوت نفسه منذ أيام.

يأخذ ليو نَفَسًا عميقًا، ويمرر إحدى يديه خلال شعره الهائش.

- "خطة جراف لم تفلح".

تشهق وكيل الأم، ويُصْدِر وكيل الأب أنينًا خافِتًا، بالكاد يُسمع.

تسمع الأم صوتها يقول: "لكن … هذا مستحيل".

ينتظر ليو أن توضِّح أكثر.

يقول صوتها: "لقد كانوا متأكدين تمامًا. قالوا إنّ الأمر شبه مؤكد".  

يدمدم صوت زوجها بغضب: "هؤلاء الأوغاد! لقد حذرتهم، لكنهم حجبوا عنِّي أحدث الأرقام، وانطلى عليَّ الأمر. هؤلاء الأوغاد المغرورون".

يقول ليو: "أعلم أنها مفاجأة. أنا أيضًا مذهول … قليلًا. كانت احتمالات الفشل ضعيفة، لكنها قائمة دائمًا. أنت تعلم ذلك يا أبي".

لم يجب وكيل الأب.

"ماذا سيحدث الآن؟ ما الخطوة التالية؟"، يتساءل صوتها من بعيد، رغم أن الأم المستمعة تعلم الإجابة بالفعل؛ كانت قد استنتجتها من نظراتهم أثناء اقتيادها إلى الكابينة، ومن انتحار زوجها - قبل خمسة أيام – وسط صور ليو، وتحت وابل من المعادلات المدوَّنة بشكل غير واضح.

يأخذ ليو نَفَسًا عميقًا. يجيبها: لا توجد خطوة تالية يا أمي. لن أعود إلى الوطن".

تنفجر وكيل الأم في نوبة من النشيج المرتعد، وتنتاب الأم المستمعة حالة من التشتت، تمنعها من سماع التسجيل الصوتي الخاص بها، بينما تتوقف حنجرتها عن إصدار أي صوت على الإطلاق.

تدرك هيرا أنه "مات فعليًّا، منذ أن أرسل هذه الرسالة". وتسأل نفسها: "كيف حدث ذلك؟ هل انجرف إلى مستوى أكثر انخفاضًا من أي وقت مضى، حتى انسحق وتلاشى؟ هل وجد طريقة أفضل للموت؟"

يراود السؤال نفسه - أو نسخة منه – وكيل الأم .

- "ماذا … ماذا ستفعل؟"

- "سأواصل العمل، حتى تخور قواي".

يتدخل وكيل الأب، قائلًا: "تبًّا لهذا. لا تعذب نفسك. ابتلع قرص الدواء".  

عندئذ، تكتم هيرا صوتًا لا إراديًّا، بين النشيج والدمدمة. فعدم وجود القرص هو ما جعل زوجها يطلق رصاصة على نفسه.

يفسر ابنها، قائلًا: "لقد فقدنا التشغيل الآلي في التصادم السابق، ولم يعد أمامنا طريقة للحصول على بيانات في طريقنا للهبوط، سوى أن أشغِّل العرض يدويًّا".  

يحتجّ صوتها قائلًا: "وماذا إذن؟ هل ستكون متيقظًا بينما يتم سحقك؟"

يجيبها: "سأبتلع القرص عندما يتجاوز الأمر قدرتي على الاحتمال".

يجيب صوتها بالوكالة بهدوء وخفوت: "لكنني لا أريد لك أن تبلغ هذا الحد".

يردف صوت الأب المضطرب، قائلًا: "يطول الأمر دقيقتين أخريين، بعد أن تبتلع القرص".

يجيب ليو: "أعرف ذلك".

بعد ذلك، يجلس ليو في مكانه. إنّ وضعية جلوسه تذكِّر الأمَ المستمِعة بأوقات غابرة في طفولته، عندما كانا يُجْلِسانه على طاولة المطبخ، بعد اعترافه بارتكاب أخطاء. إنها جلسته المستسلِمة في انتظار الحُكْم.

تلحظ وكيلتها أيضًا هذه الوضعية.

تقول وكيل الأم: "أنا شديدة الأسف يا بني". يرتجف صوتها في البداية، ثم يقوى، وكأنها استجمعت شجاعتها لتطمئِنه، ثم تردف: "سنفتقدك كثيرًا، كثيرًا جدًّا".

يجيب ليو بصوت غائض: "أنا أفتقدكما بالفعل".

تواصل وكيل الأم: "أعلم أننا وقفنا أمام طموحاتك في البداية، لكننا فخوران للغاية بك، وبإنجازاتك، وبشجاعتك".

يبكي ليو.

يقول صوت زوجها الميت: "أنت أفضل شيء حدث لي على الإطلاق. لم أكن لأتمنى ابنًا أفضل منك".

ينتحب ليو.

يقول، وهو يشهق: "يجب أن أذهب. شكرًا لكما على … حسنًا، على كل شيء. أنا أحبكما حبًّا أكبر من أنْ أستطيع التعبير عنه، وأعتذر لكما بشدة، بشدة".

ينقطع الاتصال، ويخفت ضوء الشاشة، ويحل محله وميض رمادي كئيب، لا يصل إلى درجة السواد الكامل، وتظلم الكابينة.

تجلس والدة ليو الأرملة بمفردها. على الطرف الآخر، لا يوجد ابن بالوكالة.

خارج الكابينة، يتظاهر 18 فردًا بالعمل. لا أحد ينظر إلى الكابينة، لكن الجميع يستمعون. لمدة دقيقة، لا يصدر أي صوت عن الأرملة والأم التي بداخلها. وفجأة، تصدر صرخة مدوية.. تطلِق لعنات، وسبابًا هادرًا. يتبادل العاملون نظرات قلقة، لكنْ لا أحد يتحرك باتجاه الباب.

في النهاية، يجب أن يتحدث شخص ما إلى المرأة؛ إلى امرأة كانت للتو تقف مستمِعة، بينما تأخذ سفينةٌ مكانها، في اللحظات الأخيرة من عمر ابنها، بعيدًا عن الوطن. 

لكن، لا أحد يريد أن يبدأ في التحدث إليها.  

جراهام روبرت سكوت أستاذ اللغة الإنجليزية، وصحفي سابق. يدرِّس الكتابة والبلاغة في جامعة تكساس للمرأة. 

17 Jun, 2017 05:48:17 PM
0

لمشاركة الخبر