صورة القسطنطينية في رحلة عالم شامي بعد 15 سنة من الفتح العثماني لبلاده
تُعتبر عائلة الغزي التي انتقلت من غزة إلى دمشق في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، من العائلات المخضرمة التي عايشت الدولتين المملوكية والعثمانية وبرز منها علماء وفقهاء وقضاة وأدباء ومؤرخون وساسة. وقد ارتبطت هذه العائلة في شكل خاص بمنصب مفتي الشافعية في دمشق الذي توالى عليه أفرادها حوالى خمسة قرون مع بعض الانقطاعات، أي من القرن التاسع حتى القرن الرابع عشر الهجري.
ومن هؤلاء كان العالم والأديب بدر الدين الغزي (توفي 984 ه/1577 م) ابن العالم رضي الدين الغزي (توفي 935هـ/1528م ) ووالد المؤرخ نجم الدين الغزي(توفي 1061هـ/1651م) الذي اشتهر بمؤلفه المرجعي «الكواكب السائرة في أعيان المئة العاشرة». وكان بدر الدين اصطحب والده إلى القاهرة خلال الحكم المملوكي حيث كان على صلة بجلال الدين السيوطي (توفي 911هـ/1505م) وغيره من العلماء ثم عاد إلى دمشق محدثاً وفقيهاً وتولى منصب مفتي الشافعية فيها حتى حدث ما أوجب رحلته إلى عاصمة الدولة الجديدة (العثمانية) مع عالم آخر معروف آنذاك هو قاضي دمشق ثم حلب ولي الدين بن الفرفور، الذي كان رحّب بالحكم العثماني الجديد إلى أن وشي به وسُجن.
ويبدو أن كلاهما تعرّض إلى وشاية ما لدى السلطة الجديدة ما أوجب حرمانه من منصبه أو بعض مستحقاته. ومع أن الغزي لا يصرّح بما لحق به، لكنه لا يخفي ذلك بكونه الدافع للرحلة وتوسيطه والي الشام السابق أياس باشا (927هـ/1521م) والصدر الأعظم اللاحق لكي يتدخل لدى السلطان العثماني إلى أن يحصل المراد ويعود مسروراً بما حصل عليه، في حين أن زميله في الرحلة (ابن الفرفور) لم يكمل الطريق معه بل استدعي من حلب ليحاكم ويسجن بسبب مخالفات ومظلمات حتى أنه بقي في السجن إلى وفاته في 935 ه/ 1531 م.
تُعتبر هذه الرحلة المسمّاة «المطالع البدرية في المنازل الرومية» التي استمرت حوالى ثلاثة شهور، من عصر يوم الإثنين 18 رمضان 936 هـ /16 أيار(مايو) 1530م إلى يوم السبت 28 ذي الحجة 936 ه/23 آب (أغسطس) 1530م، مهمة لأكثر من سبب. فبعد الفتح العثماني 923هـ/1516م الذي صعق الدمشقيين بالقوة النارية (المدافع) التي أطلقت في ضواحي دمشق احتفاء، حتى خُيّل إليهم أن يوم القيامة قد جاء فهرعوا إلى المساجد، والسلطة الجديدة بمراسيمها وقمعها لتمرد جان بري الغزالي الذي أعلن نفسه سلطاناً في أواخر 1520م، جاءت «المطالع البدرية في المنازل الرومية» وسط صورة متهيبة عن «الأروام» أو الحكام الجدد لبلاد الشام. فقد كانت «المطالع البدرية» تقدم أول صورة من قبل عالم شامي عن القسطنطينية (كما بقيت تدعى حتى عهد المؤلف) عاصمة الدولة الحاكمة بعد 15 سنة فقط من الفتح العثماني لبلاد الشام. ومن ناحية أخرى تعتبر «المطالع البدرية» أول مصدر موثق عن الطريق الجديد الذي أصبح يصل دمشق بالقسطنطينية وما فيه من منازل وقرى ومدن ومنشآت الخ.
ومن ناحية اللغة والأسلوب تمثل أيضاً «المطالع البدرية» مصدراً مهماً عن حال اللغة العربية والأدب في السنوات الأولى للحكم العثماني، لكون كتاب الرحلة يعج بعشرات القصائد للمؤلف، حيث تبدو سيطرة السجع على النثر والنظم على الشعر نفسه. ومن ناحية أخرى يكشف كتاب الرحلة عن حال اللغة العربية في بلاد الروم وتعثر بعض الخطباء حتى في قراءة القرآن الكريم، ما يجعل الغزي يعيد الصلاة لاعتقاده أن صلاته الأولى وراء الخطيب/ الإمام باطلة، وعن الموضوعات والمؤلفات الفقهية التي كان يتداولها المؤلف مع معارفه ومستضيفه خلال الرحلة.
ولاشك في أن من المهم هنا صورة القسطنطينية نفسها كما تبدو في رؤية عالم شامي لم ير في حياته سوى دمشق والقاهرة ثم حلب خلال الرحلة. ومن هنا ليس من المستغرب أن تحتل القسطنطينية حوالى ربع الكتاب، بما في ذلك وصفها ومنشآتها والحديث عن الكثير من علمائها الذين التقاهم وتناقش معهم فأخذ منهم وأخذوا منه. فـ «قسطنطينية العظمى» كما رآها الغزي هي «دار الطمأنينة وقاعدة الروم وأم المدائن ومقر الملك ومركز دوران الفلك ...» ، و «بها من الأئمة الأعلام وعلماء الإسلام من العرب والعجم والأروام ما يتجمّل به الزمان ويفتخر به العصر والأوان»، و «فيها من المساجد والجوامع، التي هي لأنواع الخيرات جوامع، ما تقرّ به أعين الموحّدين». وفي هذا السياق تحدث بإعجاب عن المجمع العمراني الكبير الذي بناه السلطان محمد الثاني بعد فتحه المدينة، ويضم المدارس الثماني والعمارة «التي يُطعم فيها الفقهاء والمتفقهون وينزل بها المقيمون والقاطنون والمسافرون، وتجري عليهم الأطعمة صباحاً ومساء». والمارستان الذي هو «مدرسة على كيفية العمارة، وفيها إمام مراتب وفي جوانبها الحجرات المتعلقة بالمرضى، وهو من أعجب الأشياء... وفيه من قناطير الأشربة والأكحال المطيبة والأدوية الحسنة المعجبة وسائر المعاجين المعمولة على القواعد الطبية والقوانين».
ومن الطبيعي أن يلفت نظر الغزي في القسطنطينية جامع آيا صوفيا «الذي كان كنيستها العظمى، فهو من أعظم معاهدها وأجلّ مشاهدها، يحار النظر فيه» حتى أنه يشبهه بـ «إرم ذات العماد». ويشير الغزي إلى ما كان في الكنيسة من رسوم على جدارنها بقيت آثارها حتى زيارته حيث يقول: «كان فيها صور أجسام عجيبة الأشكال والأجرام ، وقد طمس أكثرها وبقي أثرها».
في هذا العالم الجديد نزل الغزي في «عمارة السلطان محمد»، وهي من المنشآت التي اشتهر بها العثمانيون ونشروها في البلاد التي فتحوها وكانت أول ما بنوه في دمشق (عمارة أو تكية السلطان سليم مقابل جامع الشيخ محي الدين)، التي كانت توفر الإقامة والوجبات المجانية للقادمين والعابرين. ومع ذلك شعر الغزي هنا أنه صار «بين أهل تلك المدينة كالشامة البيضاء في الثور الأسود» شاكياً من معاناة الغربة والكربة مع شعوره بأنه دخل «في أمر لم أعتده وشأن لم آلفه ولم أرتده وأعهده». ويعترف الغزي هنا بأنه سمع قبل مغادرته الشام أن «هؤلاء الأروام لايعرفون مقدار أحد، ولا يلتفتون إلى من صدر أو ورد»، وهو ما زاد في شعوره بالغربة في هذه المدينة الكبيرة. ولكن بفضل سمعة والده وجدّه، ومن تتلمذ عليهما من العلماء، وعلمه الذي ظهر منه في لقاءاته مع العلماء وترحيب والي الشام السابق أياس باشا الذي ارتقى إلى الوزارة وبقي حافظاً الود للأسرة نجد أن المؤلف يقدّم صورة مغايرة عما سمعه في دمشق عن الأروام حتى أنه «لم يقابلنا أحد من الأكابر إلا بغاية الإكرام والتعظيم والتبجيل والاحترام». وفي هذا السياق يسرد الغزي أسماء عشرات العلماء الذين التقاهم في القسطنطينية و «كلهم أجازني بما تجوز له روايته وما تصحّ إليه نسبته ودرايته». وفي هذا الجو العلمي يعترف الغزي بأنه أنجز بعض مؤلفاته خلال رحلته هذه ومن ذلك «شرح البخاري» و «شرح على مقامات الحريري» وشرح «شواهد تلخيص المفتاح» وغيرها.
ومن الطبيعي أن تلفت رحلة كهذه اهتمام الباحثين والمؤرخين، فكان أول من اشتغل عليها وأصدرها بالاستناد إلى ثلاث نسخ منها، واحدة مسودة للمؤلف المحقق الأردني المعروف المهدي الرواضية ضمن المشروع الكبير «ارتياد الآفاق» (أبو ظبي 2004)، والتي فاز عنها لاحقاً بجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي، كما فاز في 2016 بجائزة معهد المخطوطات العربية في القاهرة عن تحقيقه كتاب ابن العديم «بغية الطلب في تاريخ حلب». وفي الوقت الذي كان المحقق يستعد لإصدار طبعة جديدة من الكتاب صدرت «المطالع البدرية» في اسطنبول (غرفة تجارة اسطنبول 2015 ) تحت عنوان جديد «رحلة بدر الدين الغزي إلى اسطنبول» بتحقيق عبد الرحيم أبو حسين بالاعتماد على نسختين فقط (نسخة مكتبة كوبرولو ونسخة المتحف البريطاني)، على حين أن الرواضية كان اعتمد أيضاً على نسخة الأكاديمية الروسية التي كتبها خليل الإخنائي عام 1006هـ (أي بعد حوالى أربعين سنة من وفاة المؤلف)، والتي يرجح الرواضية أنه نقلها عن مسودة المؤلف مباشرة. ومن هنا كان من المفروض أن يشار إلى جهد الرواضية وعمله في الدراسة التي نشرها عبد الرحيم أبو حسين وطارق أبو حسين عن هذه الرحلة في العدد الأخير لمجلة «اسطور»(عدد 6 / تموز- يوليو 2017).