Skip to main content
صرخة فيلسوف في وجه «الاختلال الأخلاقي للغرب»

الأزمة التي تمر بها الحضارة الغربية تجعل من الفرد الذي يفترض أن سعادته هي المحور يعيش أزمة هوية تعصف به وتعرضه لضياع كما تجره إلى إعادة البحث عن ذاته
«بدءاً من عام 1960 دخل العالم مرحلة أخلاقية جديدة، لم يسبق له أن عاش مثيلاً لها، أو على الأقل من النادر أن نعثر على وضع مشابه، حيث صار كل منا متوجاً على عرش سلطة فردية غير مسبوقة. الفرد الغربي تحديداً، صار مستقلاً، متحرراً، من أي عوائق علوية أو طبيعية تكبح جماحه. كل فرد هو بشكل من الأشكال، إمبراطور على مملكته، يفعل بحياته الخاصة ما يشاء». بهذه المقدمة يبدأ الفيلسوف وأستاذ العلوم السياسية في «جامعة رين» الفرنسية فيليب بينتون، كتابه النقدي الجديد «الاختلال الأخلاقي للغرب» الذي يحاول من خلاله فهم «المأزق الذي تعيشه المجتمعات الغربية بعد أن سجنت نفسها بمفاهيم محددة تحولت إلى قيود لا تستطيع الفكاك منها». وهي قيود اصطلح على اعتبارها مسلمات لا تناقش سلبياتها مثل «الحرية» و«المساواة» وحقوق الإنسان». العنوان نفسه يذكّر بكتاب أمين معلوف «اختلال العالم» لكن هذا الكاتب الفرنسي يركز بشكل خاص على القيم الغربية ويشن عليها هجوماً عنيفاً.


فضيلة الكتاب أنه يسأل –وهو نادراً ما يحدث- إن كانت هذه المفاهيم التي يعتدّ بها الغرب ويعممها على البشرية خيراً مطلقاً؟
يفرّق الكاتب بين «الحرية» كمفهوم، و«التحرر» الذي سمح للفرد بأن يذهب إلى حد التهتك أحياناً والتعدي على الآخرين أحياناً أخرى. يجد أنه لا بد من السؤال إذا كانت المساواة تعني أيضاً أن نعامل اللامتساوين في الموهبة والمهارات، بالطريقة نفسها؟ ومن بين ما يسأل إن لم تكن عناوين تنضوي تحت راية «حقوق المرأة» هي التي سمحت للرجل باستغلال النساء وتسليعهن في مواضع عديدة، وقبولهن بهذا طوعاً بحجة «التحرر». يثير الكتاب موضوع التعري عدة مرات، ويفرد باباً لـ«المرأة» وموضوع الذهاب في المطالبة بحقوقها إلى مناطق لم تعد مقبولة، وتحدث ارتجاجات اجتماعية كبيرة.


الكتاب يرى أن ما اعتد به الغرب باستمرار، صار تحديداً مصدر الخطر عليه الذي قد يودي به، وأن الحجب بدأت تتكشف مع تصاعد مظاهر التراجع الأخلاقي. لذلك يدعو الكاتب إلى سياسة جريئة، وأكثر واقعية، تبحث عن التوازن في تطبيق ما اعتُبر من المداميك الرئيسية للحضارة الغربية.
بينتون يعتبر أن ثمة نوعاً من التطرف في التطبيق، يجرّ إلى انحرافات في السلوك واهتزاز في المعايير. وبالتالي فإن هذه الأزمة التي تمر بها الحضارة الغربية، تجعل من الفرد الذي يفترض أن سعادته هي المحور يعيش أزمة هوية تعصف به وتعرضه لضياع كما تجره إلى إعادة البحث عن ذاته.
ومن هنا يفتح الباب لفهم سبب انجرار بعض الأوروبيين إلى الانخراط في حركات إسلامية متطرفة. وهو أيضاً ما يأخذ حيزاً من اهتمام الكاتب، الذي يتحدث عن فراغ في الانتماء، تعيشه الأجيال الجديدة. وهو ما لم يكن جزءاً من معاناة الأجيال التي سبقتها.
فكيف لمجتمع أن يكون متوازناً، حين يربي مواطنيه على أنّ ليس ثمة في العالم ما يمكن أن يضحوا من أجله، وأن الذات هي المحور والهدف والغاية.


بحكم القانون يبدو الإنسان الأوروبي، بالنسبة إلى بنيتون كأنه مُنح كل شيء، لكن في العمق ليس الأمر كذلك، لأن الفرد محكوم بمؤثرات وقيود تحيط به من كل جانب، والأهم أنه لا يشعر بوجودها، لأنه منساق بتيار جارف، وهذا في رأيه من أهم سمات العصر الذي نعيش فيه.
عناوين ساخرة، أسلوب يعتمد على إبراز فداحة المتناقضات التي تتعايش جنباً إلى جنب، دون أن تثير اعتراض أحد أو حتى تستدعي نقاشاً واسعاً. نقرأ في باب «العقلانية اللامتعقلة» عن الخطر النووي الذي يتوسع، التلوث الذي يزداد، البذخ الفاقع مع ارتفاع نسبة الفقر، العمران وهو يأكل المساحات الخضراء، بينما السياسات تبدو كأنها لا تلحظ كل هذه المخاطر أو تأخذها بعين الجدية. وفي باب «الأقوياء والضعفاء» يشرح أن المشكلة لم تعد مواجهة بين الأغنياء والفقراء، بل أصبحت المشكلة أفقية، بعد أن انتشر الفساد والتهرب الضريبي، والتلاعب في السياسة كما في الشركات الخاصة، في مختلف الدول الأوروبية، مستغرباً أن تحتجّ وزارة التربية الفرنسية على ضربة من أم أو أب لطفل على قفاه، بينما لا تعبأ كثيراً للصور وأفلام العنف والدماء التي تنتشر على هواتف التلامذة.


يدعو هذا الكتاب الذي هو أشبه بصرخة احتجاج، إلى سياسة جريئة، وأكثر واقعية، تبحث عن التوازن، للنظر في كل ما يحدث بسبب المساواة المبالغ فيها حدَّ التغاضي عن الجدارة والموهبة في بعض الأحيان. ومعرفة الفرق بين ما يرجع إلى الحرية وما ينتمي إلى استخدامات الحرية التي لا تطاق. وما هي التكنولوجيا وكيفية المحافظة على الحرية الفردية وما يستتبعها من التزامات المواطن، سواء كان معلماً أو أباً أو طفلاً.


أسئلة كثيرة وإشكاليات مختلفة تصب جميعها في قناة واحدة هي: كيف استطاع السلوك الإنساني أن يتلاعب بما كان يظن في البداية أنه مبادئ يمكنها أن تخلق مجتمعاً أكثر سعادة وعدالة. ليتضح بعد عقود من التسليم أن المشكلة في العمق ليست تقنية ولا فلسفية بل في النفس البشرية التي تتحايل على كل قانون ومفهوم لتذهب إلى هواها ومبتغاها. وبنيتون يشرح ذلك بالقول: «إن جذر الشر، خلافاً لادعاءات الأيديولوجيين، لا تمكن إزالته بتغيير الظروف السياسية والاجتماعية. هذا الشر متأصل في الإنسان، هو في قلب الإنسان. في نهاية المطاف».

15 Nov, 2017 04:52:44 AM
0

لمشاركة الخبر