حين أشرقت شمس العرب على العالم في العصر الذهبي
نستعير هذا العنوان مع بعض التصرف من المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه صاحبة الكتاب الشهير: «شمس العرب تسطع على الغرب». وهو الكتاب الذي يثبت لنا أن الإسلام كان دين العقل والعلم والكشوفات الكبرى إبان عصره الذهبي المجيد. وذلك قبل أن يغرق في التواكل والغيبيات والظلاميات طيلة عصر الانحطاط. نعم لقد كان الإسلام إبان ازدهاره الحضاري طيلة القرون الستة الأولى يدعو العرب إلى تفحص الظواهر الطبيعية، والانخراط في فهم أسرار الكون، وتحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي. كل هذا كان القرآن الكريم يدعو إليه لمن يفهم سر آياته ومغزى عباراته. وترى المؤلفة أنه عندما كانت أوروبا المسيحية غارقة في بحر من الظلام والظلامية كان الإسلام يصنع الحداثة الفكرية والعلمية والحضارية. ثم انعكست الأمور بعدئذ إبان الهيمنة السلجوقية فالعثمانية على العالم العربي والإسلامي بمجمله. فعندئذ انطفأت أنوار الحضارة وغرق العالم العربي في متاهات عصر الانحطاط. وترى المؤلفة أن عبقرية العرب تكمن في ترجمة أمهات الكتب الإغريقية والهندية ونقدها وإضافة كشوفات جديدة إليها. ثم جاء الغرب وبنى نهضته على ترجمة كنوز العرب هذه. وانطلق انطلاقة صاروخية بدءا من عصر النهضة وصنع كل هذه الحداثة الفكرية والعلمية والتكنولوجية التي نشهدها حاليا.
وكان بإمكاننا التذكير بكتاب آخر للمستشرق الإسباني الكبير خوان فيرنيه بعنوان: «ما تدين به الثقافة لعرب إسبانيا»، أي لعرب الأندلس.. وهو لا يقل أهمية عن الكتاب السابق إن لم يزد. فالمؤلف كان أحد كبار المستشرقين على مستوى العالم كله. كان خوان فيرنيه (1923 - 2011) أستاذاً للغة والآداب العربية في جامعة برشلونة عاصمة كاتالونيا التي تشغل العالم حالياً. وكان مختصاً بتاريخ العلوم والثقافة والآداب عند العرب. وبالتالي فكان يعرف عما يتحدث بالضبط دون الإغراق في التبجيل ودون إنقاص العرب حقهم: بمعنى لا إفراط ولا تفريط. وبالتالي فالذين يعتقدون بأنه لا علاقة بين الإسلام والعقل مخطئون. إنهم ينظرون إلى الإسلام من خلال عصر الانحطاط لا من خلال العصر الذهبي. إنهم ينظرون إليه من خلال القاعدة وجماعات الإخوان الدواعش..إنهم لا ينظرون إليه إلا من خلال حركات التطرف السائدة اليوم. وهذا ظلم ما بعده ظلم. وأكبر دليل على هذا الخطأ ما يقوله علماء الغرب أنفسهم. أقصد العلماء المتحررين من التعصب والهوى والتحيز المسبق. ومن بين هؤلاء المفكر الفرنسي «آلان دو ليبيرا» أستاذ الفلسفة القروسطية في جامعة جنيف وصاحب الكتب الكثيرة عن فلاسفة العرب والمسلمين. ومؤخراً ارتفع إلى أعلى المراتب الأكاديمية فأصبح أستاذاً للفلسفة في «الكوليج دوفرانس». فهذا الرجل المختص الخبير بتراثنا يعرف عما يتحدث عندما يقول إن العقل ازدهر ازدهاراً كبيراً في الإسلام إبان العصور الوسطى عندما كانت المسيحية الأوروبية تغط في نوم عميق وظلام مطبق. وفي كتابه «الإسلام والعقل» يكتب الآن دو ليبيرا مقدمة طويلة تحت عنوان: «لأجل ابن رشد».
وفيها يقول ما معناه: لقد كان ابن رشد فقيهاً وفيلسوفاً في آنٍ معاً. وكان منخرطاً في هموم عصره وقضاياه ككل المفكرين الكبار. وقد مارس تأثيراً لا يستهان به على رجال السلطة في عصره: أي على حكام إسبانيا الإسلامية أو ما ندعوه بالأندلس. وكان يرى أن على هؤلاء الحكام أن يشاطروا العامة «أي الجماهير بحسب مصطلحنا نحن» القانون العام المشترك أو ما ندعوه بالشريعة الإسلامية. ولكن عليهم في الوقت ذاته أن ينتسبوا إلى القانون الخاص بالفلاسفة. وهو قانون لا تستطيع الجماهير أن تصل إليه أو تفهمه. وبالتالي فهو حكر على الخاصة من علية القوم المتعلمين. ويرى ابن رشد أن هذا هو الشرط الأساسي لمحافظة هؤلاء الحكام على مقاليد السلطة التي ينبغي أن تكون غايتها النهائية تحقيق حكم الحق والعدل على وجه الأرض. ولهذا السبب فإن ابن رشد، على عكس معظم فقهاء عصره، لم يكن يعتقد بأن الفلسفة خارجة على الدين. بل كان يعتقد بأن الشرع الديني هو الذي يأمرنا بها وبممارستها إذا ما فهمناه جيداً. أما بقية الفقهاء فكانوا يكفرونها أو ينظرون إليها شذراً معتقدين بأنها مضادة للدين. وهنا تتجلى فرادة موقف ابن رشد في عصره. كان يدافع عن الفلسفة قائلاً ما معناه: أكبر دليل على أن الشرع ذاته يأمرنا بها ما جاء في القرآن الكريم من آيات كثيرة تحثّ على التفكر والتعقل والتدبُّر في شؤون الكون. يقول ابن رشد بالحرف الواحد في مقدمة كتابه الشهير: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»: «فأما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل، وتطلَّب معرفتها به، فذلك بيّن في غير ما آية من كتاب الله تبارك وتعالى، مثل قوله في الآية (2) من سورة الحشر: (فاعتبروا يا أولي الأبصار). وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي، أو العقلي والشرعي معاً. ومثل قوله تعالى في الآية (185) من سورة الأعراف: (أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء).. وهذا نص بالحث على النظر في جميع الموجودات.. وقال تعالى: في الآيتين (17، 18) من سورة الغاشية: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت). وقال تعالى في الآية (191) من سورة آل عمران: (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض).. إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة». انتهى الاستشهاد.
بل ويصل الأمر بابن رشد إلى حد القول بأنه لولا أن القرآن أمرنا بتشغيل عقولنا وتدبر شؤون الكون والنظر فيه لما كانت الشريعة صحيحة، ولما كانت هناك أي صحة عقلية للانتساب إلى الإسلام. وبالتالي فالإسلام والعقل صنوان لا ينفصمان، بحسب رأيه. وأي فهم آخر للإسلام غير هذا الفهم يكون خاطئاً ومبتسراً ومشوهاً. ينتج عن ذلك كله أن الحركات المتطرفة السائدة حالياً، أي حركات الغلوّ والإكراه في الدين، هي خارجة على الإسلام الصحيح أو على الفهم الصحيح للإسلام طبقاً لمنظور ابن رشد. لماذا؟ لأنها تغلّب النقل على العقل، والتواكل على التوكل، والتسليم الأعمى على المناقشة الحرة أو المناظرة المنطقية المستضيئة بنور العقل.
هذا هو جوهر الرسالة الفكرية التي أراد ابن رشد أن يوصلها إلينا. ولكن للأسف فإن العرب والمسلمين عموماً لم يستمعوا إليها ولم يأخذوا بها فتوقفوا حضارياً وجمدوا فكرياً وتأخروا عن الركب. هذا في حين أن المسيحيين الأوروبيين تلقفوها بكل حماسة على الجهة الأخرى من المتوسط، فكان أن نهضوا وتقدموا وخلَّفونا وراءهم بمسافات شاسعة. ونحن نحاول الآن أن نستدرك ما فات ونلحق بركب الحضارة، ولكن هيهات.
لماذا ظلمنا ابن رشد إلى مثل هذا الحد؟ لماذا حرقنا كتبه في حين أن الآخرين كانوا يترجمونها إلى اللاتينية، لغة أوروبا المسيحية في ذلك الزمان؟ لأننا كنا قد دخلنا في عصر الظلمات الانحطاطية وأصبحنا نكره كل شيء له علاقة بالعلم والمنطق والفلسفة. ولأننا أصبحنا نكرر كالببغاوات وبشكل اجتراري مقولات القدماء من دون أن نضيف أي شيء جديد. لقد ختمنا العلم وأغلقنا باب الاجتهاد واعتبرنا أنه لا زائد لمستزيد... ثم يطرح أستاذ الفلسفة القروسطية في جامعة جنيف هذا السؤال: هل نعلم بأن ابن رشد كان يتقن ثلاث لغات لا لغة واحدة؟ هل نعلم بأنه كان يعرف اللاتينية والعبرية بالإضافة إلى العربية؟ هل نعلم بأنه كان منفتحاً على كل علوم الإغريق وفلسفاتهم؟ ولهذا السبب أصبح الرجل الوسيط، أي الرجل الذي يشكل جسراً ثقافياً وحضارياً بين العالم العربي الإسلامي وأوروبا. لقد كان الرجل الذي نقل إلى أوروبا الجاهلة والمتعصبة دينياً كنوز الفلسفة الإغريقية والعربية. هذا هو ابن رشد، وهذه هي مكانته في التاريخ. بل إن معاصريه عرفوا قيمته، ولذلك دعوه في حياته بالقنطرة، أي الجسر الواصل بين ضفتين وثقافتين وشعبين. نحن نقول الآن: الجسر.
وربما لهذا السبب دعا محمد أركون في محاضرة عصماء ألقاها أمام ممثلي الاتحاد الأوروبي في مقر اليونيسكو بباريس إلى الاعتماد على ابن رشد وإيراسم من أجل تشكيل برنامج ثقافي عريض يصل بين أوروبا والعالم الإسلامي. فابن رشد يمثل العالم العربي الإسلامي، وإيراسم يمثل العالم الأوروبي المسيحي. وكان ذلك قبيل ضربة 11 سبتمبر (أيلول) بقليل. ثم جاءت هذه الضربة لكي تزيد من أهمية هذه الدعوة ومدى ضرورتها الملحة والعاجلة. فنحن مجبرون على التعايش المشترك بين الغرب والشرق، ولا نستطيع أن نترك الساحة فارغة للمتطرفين يصولون فيها ويجولون ويعيثون فساداً في الأرض. وإيراسم لمن لا يعرفه هو أمير عصر النهضة في أوروبا. وقد عاش بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وحاول أن يصالح بين المسيحية والعقل تماماً كما فعل ابن رشد قبله في الجهة الإسلامية. نعم إن المستقبل هو للحوار بين الثقافات والحضارات لا للصدام المجاني والعنف والإرهاب. وهذا ما قاله في وقته رئيس وزراء إسبانيا جوزيه لويس زاباتيرو الذي كان يرغب فعلاً في التواصل الأخوي مع العرب والمسلمين وفي طليعتهم المغاربة بالمعنى الواسع للكلمة، لأنهم الأقرب إليه جغرافياً وتاريخياً. وهو بذلك يريد أن يعيدنا إلى عصر الأندلس الزاهرة، عصر قرطبة وإشبيلية وطليطلة، عصر التعايش المشترك بين الديانات التوحيدية الثلاثة: الإسلام، والمسيحية، واليهودية. وكل ذلك حصل في ظل الحضارة العربية الإسلامية وفي قلب القرون الوسطى. فلماذا لا يحصل الآن بعد أن حققنا كل هذا التقدم في ظل العصور الحديثة؟ هل ما كان ممكناً قبل ألف سنة أصبح مستحيلاً بعد ألف سنة وفي مطلع القرن الحادي والعشرين؟! ولماذا سمح الإسلام آنذاك بالتسامح الديني والتعددية العقائدية وحق الاختلاف ولم يعد يسمح الآن؟ وهذا ما قاله مؤخراً الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون أثناء تدشين متحف «لوفر - أبوظبي» في الإمارات. فقد دعا إلى التحاور بين الأديان التوحيدية الإبراهيمية الثلاثة باعتبار أن أدياننا وحضاراتنا مرتبطة ببعضها بعضاً بشكل لا ينفصم. وقال ما معناه: من هنا، من هذا المتحف بالذات، تبتدئ معركة جيل بأسره لشبابنا. إنها معركة العقل ضد الظلامية. ونحن نضيف على أثره قائلين: أليست هي ذاتها معركة ابن رشد وإيراسم؟ أو معركة طه حسين وجاك بيرك؟ أو معركة محمد أركون وأندريه ميكيل؟
وأخيراً، نختم مقالنا بطرح هذه الأسئلة المتلاحقة: لماذا حصل الطلاق الكامل بين الإسلام والعقل طيلة عصور الانحطاط بل وحتى هذه اللحظة إذا ما نظرنا إلى الحركات الداعشية التي تكتسح المنطقة؟ أليس هذا دليلاً على مدى التقهقر والتراجع الذي حلّ بأمتنا العربية والإسلامية؟ أليس هذه برهاناً قاطعاً على أن عصر الانحطاط ما زال متواصلاً ولم ينته فصولاً بعد؟ أسئلة كثيرة يطرحها المثقف العربي على نفسه دون أن يجد لها جواباً شافياً. ولكن المستقبل يظل لهذه الأمة التي سوف تدخل التاريخ إن عاجلاً أو آجلاً. فمن صنع العصر الذهبي السابق سوف يصنع العصر الذهبي اللاحق. والأنوار العربية قادمة لا ريب فيها.
الشرق الاوسط.